بينما تتصاعد حدة المنافسة السياسية
وتُعلَّق لافتات الانتخابات على الجدران، تتكشف على ضفاف نهر دجلة أزمة بيئية
ووجودية صامتة.
نهر
يواجه خطر الاختناق، ومنسوب مائي ينحسر، وتراث حضاري يغرق في الطين. لقد أيقظت صور
انحسار المياه والجفاف الذي ضرب أجزاءً من النهر الوعي الشعبي بضرورة إنقاذ
"شريان العراق الحيوي"، في ظل تفاقم غير مسبوق في ظواهر الجفاف والتلوث،
وتراجع حاد في تدفق المياه من المنابع التركية، وهو ما يُعزَى - وفق آراء الخبراء
- إلى إخفاق المفاوضات في تأمين حصة العراق المائية.
الجفاف: أدنى منسوب مائي منذ تسعة عقود
يُعاني نهر دجلة اليوم من أدنى منسوب مائي
مسجّل له منذ أكثر من ثمانية عقود، بحسب بيانات وزارة الموارد المائية. ويُعدّ هذا
التدهور نتيجة مباشرة لإحكام تركيا السيطرة على منابع النهر من خلال مشاريع السدود
العملاقة، وعلى رأسها سد "إليسو"، الذي أدّى إلى تقليص تدفق المياه
الواصلة إلى العراق بنسبة تتجاوز 60٪.
التلوث: سمٌّ يهدد الحياة الباقية
لا يقتصر الخطر على الجفاف؛ فالتلوث يمثل
تحدياً بيئياً موازياً يفتك بالحياة المتبقية في النهر، ويتمثل هذا التلوث في آلاف
الأطنان من مياه الصرف الصحي التي تُضخ يومياً في مجرى النهر دون معالجة، إضافة
إلى اختلاط مياه الصرف الصناعي والزراعي بالتيار الرئيس.
وقد
كشفت دراسة محلية حديثة تجاوز نسبة الملوحة والمواد الثقيلة في مياه دجلة الحدود
الآمنة بأضعاف، خاصة في مناطق بغداد والجنوب.
هذا الواقع أدى إلى تدهور كبير في الثروة
السمكية، وجعل المياه غير صالحة للشرب في معظم المناطق، محوّلاً مجاري النهر التي
كانت يوماً مصدراً للحياة إلى قناة مفتوحة للمخلفات.
صمت السياسة وإهمال الملف الحيوي
في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة المياه
وتزداد نسب الملوحة، يبدو المشهد السياسي منشغلاً بالسباق الانتخابي على حساب سباق
إنقاذ النهر. يُشير خبراء إلى أن ملف المياه لم يُطرح بجدية على طاولة الحكومة،
وأن بغداد لم تُفعّل المفاوضات بالشكل المطلوب مع أنقرة لضمان حصص العراق المائية.
هذا الغياب للإرادة السياسية أدى إلى تهميش النهر، وأصبحت حملات الإنقاذ تعتمد
بشكل أساسي على جهود الناشطين والمتطوعين البيئيين بدلاً من المسؤولين الرسميين،
وهو ما يكشف حجم الإهمال الذي يطال هذا الشريان الوطني.
طريق الإنقاذ: دبلوماسية مائية وقرار وطني
يؤكد المراقبون أن إنقاذ دجلة ليس مستحيلاً،
بل يتطلب قراراً سياسياً شجاعاً وحاسماً. يبدأ الحل بدبلوماسية مائية فاعلة
وحقيقية مع تركيا وإيران، مروراً بتحديث شامل لمنظومة الري، وإنشاء محطات متقدمة
لمعالجة مياه الصرف الصحي، وتطبيق رقابة بيئية صارمة.
ويجب أن تتوج هذه الإجراءات بترسيخ ثقافة وطنية
تعتبر الماء قضية أمن قومي لا ملفاً ثانوياً أو هامشياً. وقد طالبت الحملات الشعبية
الحكومة بعقد اتفاقيات مائية مُلزمة لتأمين حصة العراق المائية، والتحرك الفوري
لإنقاذ النهر من مصيره المحتوم.