د. صلاح عبد الرزاق
٢٤ آب ٢٠٢٤
السيد السيستاني والتسوية السياسية
منذ الكشف عن مسودة التسوية التاريخية في خريف 2016 والجدل والنقاش والتصريحات تملأ المشهد السياسي والإعلامي العراقي. وانقسم السياسيون إلى فريقين: فريق مؤيد وفريق متحفظ. أما الناس فقد ملأها الخوف من احتمال عودة المجرمين والإرهابيين والقتلة والمطلوبين قضائياً من الوجوه التي عرفت بخطابها الطائفي والتحريض على العنف . وكان بعض السياسيين يدعي أن المرجعية على علم بالتسوية ، وأعطى انطباعاً بأنها تؤيدها. والبعض صار يفسر بعض مقاطع خطب الجمعة التي تدعو إلى الوحدة والتعايش السلمي بأنها تأييد ضمني للتسوية.
ولم يعد العراقيون يسمعون عن مواقف السيد السيستاني إلا عبر المسؤولين الأجانب الذين يسمح لهم عادة بزيارته. ففي 30 أيار 2016 وبعد زيارته للنجف الأشرف ولقائه بالمرجع صرح ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش إن (( سماحة السيد يأسف لما آل إليه المشروع الإصلاحي في البلاد، والذي كان يأمل أن يحسن الوضع في العراق وان تقوم القوى السياسية بنبذ الفرقة والتشرذم والعمل على تلبية احتياجات الناس))، مشيراً إلى أن (( سماحة السيد والمرجعيات الدينية تراقب الوضع العراقي باهتمام، ويأسفون لما وصل إليه الوضع في العراق ، وإنهم يتدخلون إذا وجدت ضرورة لذلك)). وتابع كوبيش إن (( المرجع السيستاني يدعم بقوة القوات العراقية والقوات المقاتلة (الحشد الشعبي) التي تحارب داعش في هذا الاتجاه، ويؤكد إن محاربة داعش يجب أن توحد القوى العراقية)). وبيّن كوبيتش إن (( السيستاني يؤكد على الاهتمام بالمدنيين، بالإضافة إلى دعوته إلى الاهتمام بالنازحين، حيث طلب من السلطات العراقية والمجتمع الدولي تقديم الدعم لهم))، لافتاً إلى (( إنني أبلغته الحاجة إلى تقديم الدعم سواء من الحكومة العراقية أو الأمم المتحدة لتقديم الدعم للنازحين)). (١)
لم يبد السيستاني أي موقف علني تجاه التسوية ، لكن في 29 كانون الأول 2016 حينما ذهب رئيس التحالف الوطني السيد عمار الحكيم مع وفد معه لزيارة النجف الأشرف ولقاء السيد السيستاني لشرح مضمون التسوية السياسية لسماحته رفض استقبال الوفد. هذا الموقف أعطى انطباعاً واضحاً بعدم تأييد سماحته للتسوية التاريخية التي كان السيد الحكيم يتبناها. ولما صرح بعض أعضاء المجلس الأعلى بتصريحات مفادها أن الوفد لم يكن عازماً على زيارة السيستاني نظراً لموقفه السابق بعدم لقاء الشخصيات السياسية والمسؤولين في الحكومة العراقية. هذا التصريح أثار جدلاً حول موقف المرجعية مما دعا ممثل المرجعية إلى التصريح حول موقف المرجع.
ففي 1 كانون الثاني 2017 صرح د. حامد الخفاف ممثل المرجع السيستاني في بيروت ((بعد الجدل الذي دار حول التصريح الذي أدليت به مؤخرا وما فهمه البعض منه خطأ من أن سماحة السيد السيستاني دام ظله لا يرى المصلحة فيما يسمى بمشروع التسوية المطروح أخيرا يهمني التأكيد على أن سماحته لم يبد أي موقف تجاه هذا المشروع)) . وأضاف إن (( السيستاني قد أبلغ ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وسائر الجهات المعنية فيما سبق بأنه لا يرى من المصلحة زج المرجعية الدينية في النجف الأشرف في أمر هذا المشروع بل يرى أن على القوى السياسية أن تتحمل كامل المسؤولية عنه أمام الشعب بتفاصيل بنوده وتوقيت طرحه وتوفير فرص نجاحه وغير ذلك)).
السيستاني والاستفتاء حول انفصال اقليم كردستان
في 25 أيلول 2017 قامت حكومة إقليم كردستان بإجراء استفتاء حول انفصال الاقليم وتأسيس دولة مستقلة. وقد أجري الاستفتاء رغم معارضة البرلمان والحكومة وأغلب الكتل السياسية وخاصة الشيعية. وأصدر البرلمان العراقي حزمة قرارات تضمنت عقوبات على الاقليم وعلى كل من شارك فيه من النواب وأصحاب الدرجات الخاصة. وكانت المحكمة الاتحادية قد أصدرت أمراً ولائياً منعت فيه من إجراء الاستفتاء. وبعد إجرائه أصدرت قراراً ببطلان الاستفتاء وأن الدستور العراقي يمنع الانفصال عن العراق الاتحادي الفدرالي.
بعد أربعة أيام من إجراء الاستفتاء وفي 8 محرم الحرام 1439هـ الموافق ٢٩ أيلول ٢٠١٧ ألقى السيد أحمد الصافي خطبة الجمعة التي أوضح فيها موقف السيستاني من الاستفتاء والانفصال جاء فيه:
(( ما ان تجاوز الشعب العراقي الصابر المحتسب محنة الارهاب الداعشي او كادَ ان يتجاوزها بفضل تضحيات الرجال الابطال في القوات المسلحة والقوى المساندة لهم حتى اصبح وللأسف الشديد في مواجهة محنة جديدة تتمثل في محاولة تقسيم البلد واقتطاع شماله بإقامة دولة مستقلة وقد تمت منذ ايام اولى خطوات ذلك بالرغم من كل الجهود والمساعي النبيلة التي بُذلت في سبيل ثني الاخوة في اقليم كردستان عن المضي في هذا المسار.
ان المرجعية الدينية العليا التي طالما أكدت على ضرورة المحافظة على وحدة العراق ارضاً وشعباً وعملت ما في وسعها في سبيل نبذ الطائفية والعنصرية وتحقيق التساوي بين جميع العراقيين من مختلف المكونات تدعوا جميع الاطراف الى الالتزام بالدستور العراقي نصاً وروحاً والاحتكام فيما يقع من المنازعات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم مما يستعصى على الحل بالطرق السياسية الى المحكمة الاتحادية العليا كما تقرر في الدستور والالتزام بقراراتها واحكامها.
وهي تحذر من ان القيام بخطوات منفردة باتجاه التقسيم والانفصال ومحاولة جعل ذلك أمراً واقعاً سيؤدي بما يستتبعه من ردود افعال داخلية وخارجية الى عواقب غير محمودة تمس بالدرجة الاساس حياة أعزاءنا المواطنين الكرد وربما يؤدي الى ما هو اخطر من ذلك لا سامح الله، كما انه سيفسح المجال لتدخل العديد من الاطراف الاقليمية والدولية في الشأن العراقي لتنفيذ أجندتها ومصالحها على حساب مصلحة شعبنا ووطننا.
اننا من موقع المحبة والحرص على مصالح جميع ابناء الشعب العراقي ندعو الاخوة المسؤولين في الاقليم الى الرجوع الى المسار الدستوري في حل القضايا الخلافية بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم..
كما ندعو الحكومة العراقية والقوى السياسية الممثلة في مجلس النواب الى ان تراعي في جميع قراراتها وخطواتها المحافظة على الحقوق الدستورية للإخوة الكرد وعدم المساس بشيء منها.
ونؤكد على المواطنين الكرام بأن التطورات السياسية الاخيرة لا يجوز ان تؤثر سلباً على العلاقة المتينة بين ابناء هذا الوطن من العرب والكرد والتركمان وغيرهم.. بل ينبغي ان تكون مدعاة لمزيد من التواصل فيما بينهم والتجنّب عن كل ما يمكن ان يسيء الى اللحمة الوطنية بين المكونات العراقية.((
لعل أهم ما ورد في خطبة المرجعية في يوم الجمعة 29 أيلول 2017 هو:
1- عدّ المرجع الأعلى محاولة ( تقسيم البلد واقتطاع شماله بإقامة دولة مستقلة ) أنه (محنة جديدة لا تقل عن مواجهة محنة الارهاب الداعشي).
2- عدّ المرجع الأعلى الاستفتاء الخطوة الأولى للانفصال ( بالرغم من كل الجهود والمساعي النبيلة التي بُذلت في سبيل ثني الاقليم عن المضي في هذا المسار).
3- تأكيد المرجعية على (ضرورة المحافظة على وحدة العراق أرضاً وشعباً).
4- دعت المرجعية (جميع الأطراف إلى الالتزام بالدستور العراقي نصاً وروحاً)
5- أكدت المرجعية على (الاحتكام في المنازعات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم إلى المحكمة الاتحادية، والالتزام بقراراتها وأحكامها).
6- حذرت المرجعية الاستفتاء (خطوة منفردة باتجاه التقسيم والانفصال) ، ورفضت (جعل ذلك أمراً واقعاً).
7- حذرت المرجعية من أن الانفصال (سيفسح المجال لتدخل الأطراف الاقليمية والدولية في الشأن العراقي لتنفيذ أجندتها ومصالحها على حساب مصلحة شعبنا ووطننا)
8- دعت المرجعية المسؤولين الكرد (إلى الرجوع إلى المسار الدستوري في حل القضايا الخلافية)
9- دعت المرجعية الحكومة العراقية ومجلس النواب (إلى أن تراعي في جميع قراراتها وخطواتها المحافظة على الحقوق الدستورية للأخوة الكرد وعدم المساس بشيء منها)
10- التأكيد على أهمية المحافظة على اللحمة الوطنية بين المكونات العراقية (العرب والكرد والتركمان وغيرهم).
المرجعية وقضية كركوك
في 17 تشرين الأول 2017 دخلت القوات الحكومية إلى مدينة كركوك ومطار كي وان K1 وحقول النفط في كركوك. وكانت المدينة منذ سقوط النظام عام 2003 وهي تخضع لنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني ، مع وجود هامش بسيط للحكومة الاتحادية. وبعد سقوط الموصل في 10 حزيران 2014 استفحل النفوذ الكردي أمنياً واقتصادياً وإدارياً، حتى أن مجلس محافظة ومحافظ كركوك اتخذوا قراراً برفع العَلَم الكردي فوق الأبنية الحكومية في المحافظة. الأمر الذي جعل المحكمة الادارية تصدر قراراً ببطلان رفع العلم الكردي . ولم يكتف محافظ كركوك ومجلس المحافظة ، الذي يسيطر عليه الأكراد ، بقضية العلم بل تمادوا حتى قرروا مشاركة محافظة كركوك وأقضيتها بالاستفتاء على الانفصال مع أن كركوك ليست جزءاً من الاقليم بل من المناطق المتنازع عليها التي تخضع للسلطة الاتحادية. الأمر الذي جعل البرلمان العراقي يصدر قراراً بعزل محافظ كركوك من منصبه لتجاوز صلاحياته وحدود عمله.
تراوحت المواقف السياسية تجاه بسط سيطرة القوات الأمنية على كركوك وبقية الأقضية المتنازع عليها في محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين ما بين مؤيد ومتحفظ ومعارض. جاء موقف السيستاني ليقطع دابر الخلاف ويوجه البوصلة السياسية بالاتجاه الصحيح. إذ عد بعضهم انتصاراً للعرب على الكرد، وصار يسيء للكرد. وفي المقابل انتشرت مشاهد حرق العلم العراقي، ورافقتها مشاهد حرق العلم الكردي. وكل ذلك كان يستفز المشاعر ويحرض على العداوة والحقد بين المواطنين.
في 20 تشرين الأول 2017 ألقى الشيخ عبد المهدي الكربلائي خطبة الجمعة التي ورد فيها:
((يعلم الجميع مستجدات الايام الاخيرة على الساحة السياسية والامنية وما تم من اعادة انتشار الجيش العراقي والشرطة الاتحادية في محافظة كركوك وبعض المناطق الاخرى واذ نعبر عن تقديرنا العالي بحسن تصرف الأطراف المختلفة لإتمام هذه العملية بصورة سلمية وتفادي الاصطدام المسلح بين الأخوة الاعزاء الذي طالما عملوا جنباً الى جنب في مكافحة الارهاب الداعشي.
ونود ان نؤكد على ان هذا الحدث المهم لا ينبغي ان يُحسب انتصاراً لطرف وانكساراً لطرف آخر بل هو انتصار للعراقيين كل العراقيين فيما اذا تم توظيفه لمصلحة البلد دون المصالح الشخصية او الفئوية واتخذ منطلقاً لفتح صفحة جديدة يتكاتف فيها الجميع لبناء وطنهم ورقيه وازدهاره.
قدر العراقيين بمختلف مكوناتهم من عرب وكرد وتركمان وغيرهم هو ان يعيشوا بعضاً مع بعض على ربوع هذه الأرض العزيزة وليس أمامهم فرصة لبناء غد أفضل ينعمون فيه بالأمن والاستقرار والرخاء والرفاه الا مع تظافر جهود الجميع لحل المشاكل المتراكمة عبر السنوات الماضية مبنية على أسس العدل والانصاف والمساواة بين جميع العراقيين في الحقوق والواجبات وبناء الثقة بينهم بعيدا عن النزعات التسلطية والتحم الاثني او الطائفي والاحتكام الى الدستور الذي يشكل بالرغم من نواقصه العقد الذي حظي بقبول أغلب العراقيين حين الاستفتاء عليه فلا بد من احترامه ورعاية كافة مواده وبنوده مالم يتم تعديله وفق الآلية المنصوص عليها فيه.
ومن هنا نناشد الجميع ولا سيما القيادات والنخب السياسية العمل على تقوية اللحمة الوطنية على أسس دستورية وتعزيز أواصر المحبة بين مكونات الشعب العراقي من خلال تأمين مصالح الكل من دون استثناء والابتعاد عن الانتقام مع الاحداث الأخيرة وتخفيف التوتر في المناطق المشتركة وتسهيل عودة النازحين الى بيوتهم والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة بدون التعدي عليها ولجم أية مظاهر توحي بالعنصرية او الطائفية سواء بنشر مقاطع مصورة او صوتية او رفع لافتات أو إطلاق شعارات او حرق صور او اعلام او غير ذلك.
ندعو الجهات المعنية الى اتخاذ الاجراءات المناسبة لملاحقة من يقومون بهذه الاعمال اللاأخلاقية التي تضر بالسلم الاهلي والعيش المشترك بين أبناء هذا الوطن وندعو الحكومة الاتحادية الى ان تعمل المزيد لتطمين المواطنين الكرد بانها ستوظف كل طاقاتها في سبيل حمايتهم ورعايتهم على وجه المساواة مع بقية العراقية ولن تنتقص حقوقهم الدستورية شيئاً.
كما ندعو القيادات الكردية الكريمة الى توحيد صفوفهم والعمل على تجاوز الازمة الراهنة عبر التعاون مع الحكومة الاتحادية وفق الأسس الدستورية آملين ان يفضي ذلك الى حلول عادلة ومقنعة للجميع)).
خطبة النصر على داعش
في يوم 10 كانون الأول 2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي عن تحقيق النصر الناجز على داعش وتحرير آخر شبر من التراب العراقي من دنس الارهاب الداعشي، ووصول القوات العراقية إلى الحدود العراقية-السورية. وقد استبشر العراقيون بهذا النصر ، وأقيمت الاحتفالات والمهرجانات بهذه المناسبة السعيدة.
في 15 كانون الأول 2017 ألقى الشيخ عبد المهدي الكربلائي خطبة النصر جاء فيها:
(( أيها الاخوة والاخوات:
قبل ايام أعلن رسمياً عن تحرير آخر جزء من الاراضي العراقية من سيطرة تنظيم داعش الارهابي، وبهذه المناسبة نلقي على مسامعكم هذه الكلمة:
أيها العراقيون الشرفاء
بعد ما يزيد على ثلاثة اعوام من القتال الضاري وبذل الغالي والنفيس ومواجهة مختلف الصعاب والتحديات... انتصرتم على اعتى قوة ارهابية استهدفت العراق بماضيه وحاضره ومستقبله، انتصرتم عليها بإرادتكم الصلبة وعزيمتكم الراسخة في الحفاظ على وطنكم وكرامتكم ومقدساتكم، انتصرتم عليها بتضحياتكم الكبيرة حيث قدمتم انفسكم وفلذات اكبادكم وكل ما تملكون فداءً للوطن الغالي فسطرتم اسمى صور البطولة والايثار وكتبتم تاريخ العراق الحديث بأحرف من عزّ وكرامة، ووقف العالم مدهوشاً امام صلابتكم وصبركم واستبسالكم وايمانكم بعدالة قضيتكم حتى تحقق هذا النصر الكبير الذي ظن الكثيرون أنه بعيد المنال ولكنكم جعلتم منه واقعاً ملموساً خلال مدة قصيرة نسبياً، فحفظتم به كرامة البلد وعزته وحافظتم على وحدته ارضاً وشعباً، فما اعظمكم من شعب.
ايها المقاتلون الميامين.. يا ابطال القوات المسلحة بمختلف صنوفها وعناوينها
ان المرجعية الدينية العليا صاحبة فتوى الدفاع الكفائي التي سخّرت كل امكاناتها وطاقاتها في سبيل إسناد المقاتلين وتقديم العون لهم، وبعثت بخيرة ابنائها من اساتذة وطلاب الحوزة العلمية الى الجبهات دعماً للقوات المقاتلة وقدمت العشرات منهم شهداء في هذا الطريق...لا ترى لاحدٍ فضلا ً يداني فضلكم ولامجداً يرقى الى مجدكم في تحقيق هذا الانجاز التاريخي المهم.. فلولا استجابتكم الواسعة لفتوى المرجعية وندائها واندفاعكم البطولي الى جبهات القتال وصمودكم الاسطوري فيها بما يزيد على ثلاثة اعوام لما تحقق هذا النصر المبين..
فالنصر منكم ولكم واليكم وأنتم أهله وأصحابه فهنيئاً لكم به، وهنيئاً لشعبكم بكم، وبوركتم وبوركت تلك السواعد الكريمة التي قاتلتم بها وبوركت تلك الحجور الطاهرة التي ربّيتم فيها، أنتم فخرنا وعزّنا ومن نباهي به سائر الامم.
ما أسعد العراق وما أسعدنا بكم لقد استرخصتم ارواحكم وبذلتم مهجكم في سبيل بلدكم وشعبكم ومقدساتكم، اننا نعجز عن ان نوفيكم بعض حقكم ولكن الله تعالى سيوفيكم الجزاء الاوفى، وليس لنا الا ندعوه بأن يزيد في بركاته عليكم ويجزيكم خير جزاء المحسنين.
ايها الاخوة والاخوات
اننا اليوم نستذكر بمزيد من الخشوع والاجلال شهداءنا الابرار الذين روّوا ارض الوطن بفيض دمائهم الزكية، فكانوا نماذج عظيمة للتضحية والفداء.
ونستذكر معهم عوائلهم الكريمة: آباءهم وامهاتهم وزوجاتهم واولادهم واخوتهم واخواتهم، اولئك الاعزة الذين فجعوا بأحبتهم فغدوا يقابلون ألم الفراق بمزيد من الصبر والتحمل.
ونستذكر بعزة وشموخ اعزاءنا الجرحى ولاسيما من اصيبوا بالإعاقة الدائمة وهم الشهداء الاحياء الذين شاء الله تعالى ان يبقوا بيننا شهوداً على بطولة شعب واجه اشرار العالم فانتصر عليهم بتضحيات ابنائه.
ونستذكر بإكبار وامتنان جميع المواطنين الكرام الذين ساهموا في رفد ابنائهم المقاتلين في الجبهات بكل ما يعزز صمودهم، حيث كانوا خير نصير وظهير لهم، في واحدة من اروع صور تلاحم شعب بكافة شرائحه ومكوناته في الدفاع عن عزته وكرامته.
ونستذكر بشكر وتقدير كل الذين كان لهم دور فاعل ومساند في هذه الملحمة الكبرى من المفكرين والمثقفين والاطباء والشعراء والكتّاب والاعلاميين وغيرهم..
كما نقدم الشكر والتقدير لكل الاشقاء والاصدقاء الذين وقفوا مع العراق وشعبه في محنته مع الارهاب الداعشي وساندوه وقدموا له العون والمساعدة سائلين الله العلي القدير ان يدفع عن الجميع شر الاشرار وينعم عليهم بالأمن والسلام.
وهناك عدة أمور لابد من ان نشير اليها:
أولا ً: إن النصر على داعش لا يمثل نهاية المعركة مع الارهاب والارهابيين بل ان هذه المعركة ستستمر وتتواصل ما دام ان هناك أناساً قد ضُلّلوا فاعتنقوا الفكر المتطرف الذي لا يقبل صاحبه بالتعايش السلمي مع الآخرين ممن يختلفون معه في الرأي والعقيدة ولا يتورع عن الفتك بالمدنيين الابرياء وسبي الاطفال والنساء وتدمير البلاد للوصول الى اهدافه الخبيثة بل ويتقرب الى الله تعالى بذلك... فحذار من التراخي في التعامل مع هذا الخطر المستمر والتغاضي عن العناصر الارهابية المستترة والخلايا النائمة التي تتربص الفرص للنيل من أمن واستقرار البلد.
ان مكافحة الارهاب يجب ان تتم من خلال التصدي لجذوره الفكرية والدينية وتجفيف منابعه البشرية والمالية والاعلامية ويتطلب ذلك العمل وفق خطط مهنية مدروسة لتأتي بالنتائج المطلوبة، والعمل الامني والاستخباري وان كان يشكّل الاساس في مكافحة الارهاب الا ان من الضروري ان يقترن ذلك بالعمل التوعوي لكشف زيف وبطلان الفكر الارهابي وانحرافه عن جادة الدين الاسلامي الحنيف، متزامناً مع نشر وترويج خطاب الاعتدال والتسامح في المجتمعات التي يمكن ان تقع تحت تأثير هذا الفكر المنحرف، بالإضافة الى ضرورة العمل على تحسين الظروف المعيشية في المناطق المحررة واعادة اعمارها وتمكين اهلها النازحين من العودة اليها بعزة وكرامة وضمان عدم الانتقاص من حقوقهم الدستورية وتجنب تكرار الاخطاء السابقة في التعامل معهم.
ثانياً: إن المنظومة الامنية العراقية لا تزال بحاجة ماسة الى الكثير من الرجال الابطال الذين ساندوا قوات الجيش والشرطة الاتحادية خلال السنوات الماضية وقاتلوا معها في مختلف الجبهات وأبلوا بلاءً حسناً في اكثر المناطق وعورة ً واشد الظروف قساوة ً وأثبتوا أنهم أهلٌ للمنازلة في الدفاع عن الارض والعرض والمقدسات وحققوا نتائج مذهلة فاجأت الجميع داخلياً ودولياً.. ولا سيما الشباب منهم الذين شاركوا في مختلف العمليات العسكرية والاستخبارية واكتسبوا خبرات قتالية وفنية مهمة وكانوا مثالا ً للانضباط والشجاعة والاندفاع الوطني والعقائدي ولم يصبهم الوهن او التراجع أو التخاذل..
ان من الضروري استمرار الاستعانة والانتفاع بهذه الطاقات المهمة ضمن الأطر الدستورية والقانونية التي تحصر السلاح بيد الدولة وترسم المسار الصحيح لدور هؤلاء الأبطال في المشاركة في حفظ البلد وتعزيز أمنه حاضراً ومستقبلا ً، والوقوف بوجه أي محاولات جديدة للإرهابيين بغرض النيل من العراق وشعبه ومقدساته.
ثالثاً: ان الشهداء الابرار الذين سقوا ارض العراق بدمائهم الزكية وارتقوا الى جنان الخلد مضرجين بها لفي غنىً عنا جميعاً، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولكن من أدنى درجات الوفاء لهم هو العناية بعوائلهم من الارامل واليتامى وغيرهم، ان رعاية هؤلاء وتوفير الحياة الكريمة لهم من حيث السكن والصحة والتعليم والنفقات المعيشية وغيرها واجب وطني واخلاقي وحق لازم في اعناقنا جميعاً، ولن تفلح أمة لا ترعى عوائل شهدائها الذين ضحوا بحياتهم وبذلوا ارواحهم في سبيل عزتها وكرامتها، وهذه المهمة هي بالدرجة الاولى واجب الحكومة ومجلس النواب بأن يوفرا مخصصات مالية وافية لتأمين العيش الكريم لعوائل شهداء الارهاب الداعشي بالخصوص، مقدماً على كثير من البنود الاخرى للميزانية العامة.
رابعاً: إن الحرب مع الارهابيين الدواعش خلّف عشرات الالاف من الجرحى والمصابين في صفوف الابطال المشاركين في العمليات القتالية، وكثير منهم بحاجة الى الرعاية الطبية وآخرون اصيبوا بعوق دائم، والعوق في بعضهم بالغ كالشلل الرباعي وفقدان البصر وبتر الاطراف، وهؤلاء الاعزة هم الاحق بالرعاية والعناية ممن سواهم، لما لهم من الفضل على جميع العراقيين، فلولاهم لما تحررت الارض وما اندحر الارهاب وما حفظت الاعراض والمقدسات، ومن هنا فإن توفير العيش الكريم لهم وتحقيق وسائل راحتهم بالمقدار الممكن تخفيفاً لمعاناتهم واجبٌ وأي واجب، ويلزم الحكومة ومجلس النواب ان يوفرا المخصصات المالية اللازمة لذلك، وترجيحه على مصاريف أخرى ليست بهذه الاهمية.
خامساً: إن معظم الذين شاركوا في الدفاع الكفائي خلال السنوات الماضية لم يشاركوا فيه لدنيا ينالونها أو مواقع يحظون بها، فقد هبّوا الى جبهات القتال استجابة لنداء المرجعية واداءً للواجب الديني والوطني، دفعهم اليه حبهم للعراق والعراقيين وغيرتهم على اعراض العراقيات من أن تنتهك بأيدي الدواعش وحرصهم على صيانة المقدسات من أن ينالها الارهابيون بسوء، فكانت نواياهم خالصة من أي مكاسب دنيوية، ومن هنا حظوا باحترام بالغ في نفوس الجميع واصبح لهم مكانة سامية في مختلف الاوساط الشعبية لا تدانيها مكانة ُ أي حزب او تيار سياسي، ومن الضروري المحافظة على هذه المكانة الرفيعة والسمعة الحسنة وعدم محاولة استغلالها لتحقيق مآرب سياسية يؤدي في النهاية الى ان يحلّ بهذا العنوان المقدس ما حلّ بغيره من العناوين المحترمة نتيجة للأخطاء والخطايا التي ارتكبها من ادّعوها.
سادساً: ان التحرك بشكل جدي وفعال لمواجهة الفساد والمفسدين يعدّ من اوليات المرحلة المقبلة، فلابد من مكافحة الفساد المالي والاداري بكل حزم وقوة من خلال تفعيل الاطر القانونية وبخطط عملية وواقعية بعيداً عن الاجراءات الشكلية والاستعراضية.
ان المعركة ضد الفساد – التي تأخرت طويلا ً- لا تقلّ ضراوة عن معركة الارهاب إن لم تكن أشد وأقسى، والعراقيون الشرفاء الذين استبسلوا في معركة الارهاب قادرون – بعون الله- على خوض غمار معركة الفساد والانتصار فيها أيضاً إن أحسنوا ادارتها بشكل مهني وحازم.
نسأل الله العلي القدير أن يأخذ بأيدي الجميع الى ما فيه خير العراق وصلاح أهله إنه سميع
مجيب)).
تضمنت واحدة من طوال خطب الجمعة المكتوبة مجموعة قضايا أهمها:
1- ابتداءً مخاطبة جميع العراقيين بلا استثناء، وأشاد بإرادتهم الصلبة وعزيمتهم الراسخة في الحفاظ على وطنهم وكرامتهم ومقدساتهم. كما أكد على التضحيات الكبيرة من أبناء العراق الذين استشهدوا دفاعاً عن العراق وشعبه .
2- إشادة بجميع المقاتلين والقوات الأمنية من مختلف الصنوف دون تسميتها.
3- الإشارة إلى فتوى الجهاد (الدفاع) الكفائي التي أصدرها المرجع السيستاني وكانت الانطلاقة الكبيرة التي بعثت الحماس والاندفاع للتطوع في صفوف المقاتلين والفصائل المسلحة. وأن المرجعية لم تكتف بإصدار الفتاوى والتعليمات بل بادرت إلى مساندة المقاتلين وتقديم العون المادي والمعنوي. وأنها بعثت بطلاب وأساتذة الحوزة العلمية إلى الجبهات ، واستشهد العشرات منهم.
4- إن المرجعية لا تنسب هذا النصر لها رغم دورها الكبير فيه ، ولا لأي أحد أو جهة أخرى غير المقاتلين المتطوعين وأبناء القوات المسلحة . وهي إشارة واضحة إلى الكف عن الادعاء بالنصر لهذه الشخصية أو القائد بل الفضل كله، حسب رأي المرجعية، يعود لهؤلاء المقاتلين في الجبهات الذين لولا استجابتهم للفتوى لما تحقق هذا النصر المبين.
5- إعراب المرجعية باعتزازها وسعادتها والشعب العراقي بأبنائه الذين بذلوا مهجهم واسترخصوا أرواحهم ورسموا أروع صور التضحية والانسانية في الجبهات. وأن المرجعية تعجز عن إيفائهم حقهم الذي يستحقونه.
6- استذكار الشهداء وعائلاتهم الكريمة الذين فجعوا بأحبتهم، والاعتزاز بالجرحى الذين شاء الله أن يبقوا بيننا شهوداً على بطولة شعب واجه اشرار العالم فانتصر عليهم بتضحيات أبنائه. ودعت المرجعية إلى ضرورة رعاية عائلاتهم وتوفير الحياة الكريمة لهم من حيث السكن والصحة والتعليم والنفقات المعيشية، وهذا واجب الحكومة ومجلس النواب في توفير التخصيصات المالية في الموازنة العامة للدولة. والأمر نفسه ينطبق مع ال