د. صلاح عبد الرزاق
٢٩ آب ٢٠٢٤
سنة العراق أقلية قوية
يمتد الوجود السني في العراق منذ صدر الإسلام إلى الدولة الأموية ثم العباسية إلى الدولة العثمانية. وخلال عهود متطاولة وقرون من التمتع بالسلطة كان السنة يمسكون بزمام الحكم والسياسة والجيش والقضاء والتجارة. ولأسباب فقهية كان علماء السنة لا يجدون حرجاً في التعاون مع الحاكم ، إلا ما ندر، وإن كان ظالماً أو فاسقاً ، إضافة إلى الامتيازات التي يوفرها الحكم السني لأتباعه من سلطة وثروة وامتيازات. وبقي السنة يمثلون الخزان البشري للسلطات الحاكمة في محيط مضطرب أو وجود جماعات معارضة تقوم بانتفاضات أو ثورات بين حين وآخر.
لا توجد أية معلومات رسمية عراقية تحدد نسبة السنة أو الشيعة في العراق. إذ بقي النظام ومن سبقه من أنظمة الحكم يمنع نشر أية أرقام أو إحصائيات عن واقع التركيب القومي والمذهبي في العراق لأنه يعتبر ذلك من أسرار الدولة. ويرفض الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط نشر أية معلومات تتعلق بالواقع المذهبي. ويعود ذلك إلى أن غالبية العرب هم شيعة (80% من عرب العراق هم شيعة) ، وغالبية السنة هم أكراد . في حين يشكل السنة العرب أقلية لا تتجاوز 15% والأكراد السنة 20% والشيعة العرب 60% . ويشكل التركمان والمسيحيون والصابئة حوالي 5%. وهذه إحصائيات عراقية قديمة أو غربية معاصرة. وتوجد مصادر أجنبية تحدثت عن نسبة كل مكون مذهبي عراقي ، وهي قريبة ما ذكرناه آنفاً. (١)
الجغرافيا المذهبية
يتركز السكان الشيعة في بغداد (80%) والمحافظات الوسطى والجنوبية ، إضافة إلى أقليات في محافظة نينوى (قضاء تلعفر وناحية برطلة) ، ومحافظة صلاح الدين (بلد والدجيل وطوزخورماتو وآمرلي) وكركوك (مناطق تازة وبشير وتسعين وداقوق).
ويتركز السنة في بغداد (17%) ومحافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وإقليم كردستان (السليمانية وأربيل ودهوك). وتوجد أقليات سنية في البصرة (الزبير، أبو الخصيب، صفوان) وفي محافظة ذي قار (في سوق الشيوخ) ، ومحافظة بابل (الاسكندرية) ، ومحافظة واسط (الصويرة). أما محافظة ديالى فهي مختلطة حيث تبلغ نسبة السنة 55% والشيعة 45%.
منذ تأسيسها عام 1921 اتسمت الدولة العراقية الحديثة بالطابع السني لأن الملوك والأمراء وقادة الجيش ورؤساء الوزارات وكبار المسؤولين والسفراء والقضاة عموماً من أهل السنة. وعند تأسيس الجمهورية عام 1958 تعاقب على الرئاسة رؤساء سنة (عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، عبد الرحمن عارف، أحمد حسن البكر وصدام حسين). وبعد 2003 حافظت رئاسة الجمهورية على مذهبها (غازي عجيل الياور، جلال الطالباني وفؤاد معصوم وبرهم صالح وجمال عبد اللطيف رشيد) على الرغم من تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية ، وصار رئيس الوزراء الشيعي صاحب السلطة الأول.
سلطة البعث وسياسة التمييز الطائفي
وجدت أجهزة السلطة وحزب البعث في السنة العرب الخزان البشري الذي يزودها بالعناصر التي تحتاجها لشتى المهام. وفي المحافظات الشيعية لا مناص من كون الشيعة يمثلون الكادر البعثي لكن عادة ما تكون مفاتيح السلطة المحلية عموماً بأيدي سنة سواء على مستوى المحافظ أو القائد العسكري أو مدير الأمن أو الاستخبارات والفرقة الحزبية. وتجري الاستعانة بالبعثيين الشيعة للتجسس وضرب المعارضين الشيعة.
يعود اعتماد السلطة على هذه الأقلية إلى الاطمئنان بولائها المطلق للسلطة والحزب، لأن مصالحها لن تتقاطع مع مصالح السلطة بل على العكس فالانتماء للسلطة وحزب السلطة يوفر لأبناء هذه الأقلية جميع الامتيازات وأنواع الرفاه المادي والجاه الاجتماعي.
وطالما أن السنة العرب يتركزون في محافظات الموصل والرمادي وصلاح الدين، فمن الطبيعي أن تمثل هذه المحافظات الثلاث الخزان البشري الذي تحتاجه السلطة في إدارة البلاد. وليس من الغريب أن أبناء بعض الأقضية كالفلوجة وهيت وتكريت وسامراء، وبعض قرى أعالي الفرات كعانة وراوة وحديثة والدور وكبيسة، كان لهم الحضور الأقوى في السلطة خلال الفترة من عام ١٩٢١ الى ٢٠٠٣. وبلغ الاعتماد على بعض هذه القرى أن إحداها قد زودت الدولة بعدد من الوزراء والمسؤولين الكبار أكثر مما قدمته جميع المحافظات الجنوبية خلال نصف قرن!! كما لعبت بعض العشائر السنية دوراً واضحاً في احتلال أبنائها وظائف هامة كعشائر الدليم وزوبع والجميلات والجبور والعزة في الرمادي.
ومنعاً لافتضاح أصول ومذهب كبار المسؤولين وقيادات الحزب والجيش والشرطة ، فقد أصدر النظام في منتصف السبعينيات قراراً يمنع فيه العراقيين من حمل ألقابهم كي لا تعرف أصولهم ومدنهم وعشائرهم.
وبسبب اعتماد السلطة سياسة تمييز طائفي تتمثل في إقصاء الشيعة عن أية مراكز حساسة أو مناصب رفيعة في الدولة ، وجد الكثير من أبناء السنة العرب الطريق أمامهم مفتوحاً لتولي المراكز العليا في الحكومة دون صعوبة. فكان غالبية الوزراء والسفراء والقضاة والمحافظين ومدراء المؤسسات والدوائر الحكومية وقيادات الجيش والشرطة والأمن والمخابرات من أهل السنة. إن الفرد العادي من أبناء تلك المدن لا يجد صعوبة في الحصول على وظيفة جيدة في دائرة أو مؤسسة مدنية من خلال وساطة قريب أو صديق. (٢) فإذا لم تكن لديه إمكانيات شخصية من ذكاء أو تعليم فيمكنه الانخراط في أجهزة الأمن والمخابرات، التي تتولى تدريبه ثم منحه راتباً جيداً وامتيازات مادية واجتماعية ترفع من شأنه. أما الذي يحمل شهادة جامعية فيجد أمامه فرصاً كثيرة يختار منها ما يشاء، فبإمكانه دخول إحدى الكليات المغلقة للسنة والبعثيين عموماً مثل الكلية العسكرية وكلية الشرطة وكلية الطيران . يحصل بعدها على رتبة تؤهله لاستلام مسؤوليات ومهام كبيرة في أجهزة الدولة العسكرية. هذا مع العلم أن النظام في بداية حكمه قام بإقالة الكثير من الضباط الذين يشك في ولائهم واستبدلهم بعناصر من أبناء هذه القرى ، حيث أدخلهم في دورات سريعة لمدة ستة أشهر، ثم منحهم رتباً عسكرية. ولعل قسم كبير ممن يحملون رتب عميد ولواء الآن هم ممن تدرج في الرتب العسكرية وهم لا يحملون شهادة أولية.
ومن يرغب منهم في التعليم العالي فيجد أمامه أبواباً كثيرة. فالبعثات والزمالات مقتصرة بشكل عام على أبناء هذه الطائفة . ومنذ بداية السبعينات عندما بدأ النظام يقيل أساتذة الجامعات والباحثين والأطباء والجراحين الشيعة بادر إلى إرسال بعثات إلى الخارج غالبيتهم من السنة العرب والآخرين من البعثيين الأوفياء للحزب. كما صار قبول الطلاب العراقيين في الدراسات العليا يعتمد على تزكية منظمة حزب البعث في المنطقة التي يقيم فيها المرشح. وخلال عشر سنوات بدأت هذه البعثات تعود إلى البلاد لتجد وظائفها بانتظارها . كما حصل الطلاب البعثيون على شهادات علمية من الجامعات العراقية، فصاروا يتبوؤون أعلى المناصب والمراكز العلمية في الدولة والجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، وما زالت حتى اليوم.
إن ما ذكرناه آنفاً لا يعني عدم وجود مسؤولين شيعة في المؤسسات الحكومية والعسكرية والقضائية، لكن كانوا ضمن الضوابط البعثية والأمنية ، وينفذون ما يُطلب منهم من مهام أو أمور أو تمشية قضايا معينة.
الثراء عبر التجارة والمقاولات
منذ بداية حكمه والنظام الصدامي كان يعتبر النفوذ الشيعي في التجارة العراقية ودور التجار الشيعة في تجارة الجملة في سوق الشورجة ببغداد، يمثل خطراً وتهديداً لاستمراره في السلطة. فحزب البعث كان دائماً يتوجس من قوة المال الشيعي وتأثيره على التحرك الشيعي سواء من خلال دعم المرجعية الدينية والحوزة العلمية التي لا تستغني عن أموال الأثرياء الشيعة لإدارة مدارسها ونشاطاتها، أو من خلال تقديم الدعم المالي للحركات الإسلامية الشيعية الناشطة. فسعى إلى تجفيف مصادر المال الشيعي.
وإذا كان نظام عبد السلام عارف قد قلّص من منح التجار الشيعة إجازات استيراد كوسيلة للحد من النفوذ الشيعي في الشارع العراقي (٣) ، فإن نظام صدام لم يكتف بإلغاء إجازات استيراد التجار الشيعة فحسب، بل بادر إلى مصادرة أموالهم وأملاكهم، ثم أركبهم في شاحنات تلقي بهم على الحدود الإيرانية، بذريعة أنهم إيرانيو الأصل. واستثنى النظام من التهجير السنة غير العرب كالإيرانيين والهنود والأفغان والأتراك الذين يقيمون في العراق أيضاً.
وفي المقابل قام النظام بفتح أبواب الثراء والمال أمام أبناء الطائفة السنية عموماً وأقارب مسؤولي النظام على الخصوص، حيث منحهم إجازات الاستيراد للسيطرة على السوق العراقي. وعمل آخرون في التجارة الداخلية والخارجية وصاروا من أصحاب العقارات والمزارع والدواجن والأبقار. وافتتح آخرون محلات تجارية وفنادق ومطاعم ومعارض سيارات ومحلات صيرفة ومكاتب استيراد وتصدير وغيرها. كما قام بمنح المقاولات الضخمة كإنشاء المطارات العسكرية على الحدود السورية والأردنية، أو إنجاز الطرق الضخمة مع سوريا والأردن، إلى أقارب رؤوس السلطة أو المحسوبين عليها مثل إحدى العائلات في الرمادي ، حيث وصلت أرباح هذه العائلة، التي لديها صلة قربى بوزير الدفاع السابق حمادي شهاب، إلى عدة ملايين من الدنانير آنذاك. وقد تبرعت بمليون دينار إلى (قادسية صدام). وهناك شخص بدأ نشاطه بافتتاح ملهى ليلي في صدر قناة الجيش ببغداد ثم صار مقاولاً للمقاولات العسكرية الفاحشة الأرباح.
وتشهد جريدة (الوقائع العراقية) التي تنشر فيها القوانين الحكومية وقرارات مجلس قيادة الثورة على عدد القرارات الخاصة بنزع ملكية عقارات من أشخاص ومنحها إلى أشخاص آخرين من أقارب صدام أو العائلة الحاكمة أو لصالح الموالين والمحسوبين على النظام. كما تضم قرارات بمنح بعضهم أراض وعقارات تعود ملكيتها للدولة. وهذه القرارات الشاذة لوحدها بحاجة إلى دراسة منفردة. وبعد سقوط النظام تم حجز عقارات أزلام النظام التي صادرها من الشيعة وتعد بالآلاف خاصة في بغداد، وتشمل دور ومزارع وبساتين وأراضي تجارية وغيرها.
ومن القوانين العنصرية أن النظام منع أبناء المحافظات الجنوبية الشيعية من السكن في مدينة بغداد. كما منع أي شخص من أبناء تلك المحافظات شراء عقار في بغداد إلا أن يكون مسجلاً في سجلات محافظة بغداد في إحصاء عام 1957 أو يكون ساكناً فيها منذ ذلك العام . واستثنى القرار أبناء محافظة صلاح الدين (تكريت وأقضيتها) باعتبار أنها كانت تابعة آنذاك إدارياً إلى محافظة بغداد. في حين منع سكان مناطق أخرى تحمل نفس المواصفات وتابعة إلى بغداد آنذاك أيضاً مثل قضاء العزيزية لكن تم إلحاقها بمحافظة الكوت لكون سكنتها من الشيعة. كما استثنى القرار رجال المخابرات والأمن الخاص وأعضاء حزب البعث من درجة عضو شعبة فما فوق، وكل من يصدر له استثناء من ديوان رئاسة الجمهورية.
إذا كانت طبقة السنة العرب المستفيد الأول من السلطة وحزب البعث فلا يعني ذلك عدم وجود أفراد وجماعات أخرى مستفيدة من خارج هذه الفئة كبعض البعثيين الشيعة أمثال نعيم حداد وسعدون حمادي ومحمد سعيد الصحاف، والمسيحيين مثل طارق عزيز والأكراد أمثال عبيد الله البارزاني وطه محي الدين معروف وآخرين من الصابئة والتركمان؛ أو ممن يقدمون له خدمات جليلة كجلادي دوائر الأمن أمثال ناظم كزار وفاضل الزركاني وغيرهم. كما ساهم شعراء وكتاب وصحفيون ومغنون من الشيعة في الدعاية للنظام.
لقد سعى النظام الصدامي إلى إدماج السنة في أجهزته ليكونوا سداً بشرياً واجتماعياً وطائفياً يحتمي به من سخط واستياء وعداء الشعب العراقي. وإذا كان كثير من أهل السنة قد انساقوا وراء هذا الطرح بوعي أو دون وعي لكن كان هناك تيار إسلامي سني أمثال حزب التحرير والإخوان المسلمين والحزب الإسلامي العراقي عارضوا هذا التوجه، ولم يعتبروا صداماً ونظامه وحزبه مسلماً ولا حتى سنياً يمكن أن يدعي تمثيل السنة العرب. وقد عارض الإسلاميون السنة العرب حزب البعث منذ وصوله إلى السلطة، فتعرض بعضهم للاعتقال والسجن ، واضطر آخرون إلى الهرب والعيش في دول أخرى أمثال الشيخ محمود الصواف وعبد الكريم زيدان وطه العلواني ومحمود شيت خطاب . كما قام النظام بإعدام بعض رموز هذا التيار أمثال الشيخ عبد العزيز البدري والشيخ ناظم العاصي.
في تلك الفترة كانت الغالبية من كتاب ومفكري ومثقفي ومشايخ السنة العرب لا يعارضون سياسة التمييز الطائفي التي يمارسها نظام صدام ومن قبله ، وعدم منح بقية فئات المجتمع العراقي نفس الفرص أو أقل منها قليلاً كي لا يكون تنعمهم بالسلطة والثروة على حساب بقية مكونات الشعب العراقي.
لكن من الظواهر النادرة هي عندما أبدى أئمة المساجد السنية في بغداد تعاطفاً مع الشهيد السيد محمد صادق الصدر. وكان لبعض علمائهم وخطبائهم علاقات واتصالات مع الصدر الثاني ولقاءات مع أئمة المساجد الشيعية. وبعد استشهاد الصدر الثاني عام 1999 استقبلت المساجد السنية جماهير المصلين الشيعة للمشاركة في صلاة الجمعة، بعدما أغلق النظام المساجد الشيعية ومنع الشيعة من إقامة صلاة الجمعة.
صدام يعدم قيادات سنية
لم يكن حكم حزب البعث خالياً من التوترات والمواجهات الداخلية والخارجية . فقد قام صدام بتصفية جميع خصومه من جميع فئات الشعب العراقي. ولم يكن يتوانى عن إعدام رفاقه في الحزب والدولة ، بل وحتى أقاربه وأصهاره أمثال حسين كامل وصدام كامل. ويمكن تصنيف الفئات التي تنتمي للسنة العرب والتي تعرضت إلى سجون وتعذيب وتصفيات نظام صدام إلى :
1-العناصر البعثية وخاصة التي تحتل المناصب العالية. ويتم تصفية هؤلاء عادة تحت لافتة التورط بمؤامرة ضد الحزب والدولة . فقد قام بإعدام عبد الخالق السامرائي مع ناظم كزار بتهمة التآمر عام 1973 . وبين عامي 1970-1979 تمت تصفية سبعة من أعضاء مجلس قيادة الثورة وهم حماد شهاب التكريتي وسعدون غيدان التكريتي وحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف وصالح مهدي عماش وأحمد حسن البكر. وفي عام 1979 بعد تسلمه رئاسة الجمهورية أعدم صدام ابن خالته عدنان حسين الحمداني ومعه 21 عضواً في قيادة حزب البعث.
2- قيادات الجيش الذين اتهموا باتهامات مماثلة أو تحسباً منهم باعتبارهم قد يشكلون خطراً عليه أمثال عدنان خير الله طلفاح واللواء طارق حمد العبدالله وعمر الهزاع وآخرون كثيرون .
3- وزراء وسفراء أمثال ناصر الحاني (العاني) و وأحمد عبد الستار الجواري ومرتضي عبد الباقي الحديثي ورياض الحاج حسين ومحمد عايش وخالد عبد عثمان الكبيسي وعبد الكريم الشيخلي وشفيق الكمالي وآخرون.
4- المعارضون للنظام من المنتمين لأحزاب سياسية أخرى مثل حزب البعث – تنظيم سوريا، والحزب الشيوعي العراقي والإخوان المسلمين وحزب التحرير .
ومع أن صدام لم يتوان عن إعدام السنة العرب لكن يمكن ملاحظة ما يلي:
1- أن غالبية التصفيات والاعتقالات التي شملت هذه الفئة كانت قد حدثت بسبب تنافس داخل السلطة أو داخل حزب البعث. فالذين تمت تصفيتهم أو هربوا من النظام كانوا يوماً ما في السلطة ومن قيادات حزب البعث لكن صدام اختلف معهم أو شك في ولائهم أو اعتبرهم منافسين له يهددون سلطته فتعرضوا لعقابه. وما الاتهامات بالمشاركة في مؤامرات مزعومة أو حقيقية ليست إلا دليلاً على ذلك التنافس.
2- أن النظام تعامل، في الغالب، مع المعارضين له من هذه الفئة على أساس أفراد وليس جماعات. إذ كان الأفراد المتورطون أو المتهمون أو المشتبه بهم هم الذين يتعرضون للعقاب دون أقاربهم أو أولادهم كما هي معاملة النظام للشيعة الذين يشملهم العقاب حتى الدرجة الرابعة من القرابة. وقد تكون حدثت بعض الأحداث التي راح فيها جماعة أو جزء من عشيرة في تصفية أو مواجهة مسلحة مع النظام، لكنها تبقى حوادث استثنائية وليست حالة عامة. فالنظام كان يحرص أن لا يستجلب عداوة هذه الفئة.
3- لم يقم النظام بضرب أو قصف مدن أو قرى سنية عربية وقتل أهلها بشكل جماعي كما حدث في كردستان العراق ومناطق الدجيل وجيزان الجول في ديالى، ومدن الجنوب الشيعي أثناء انتفاضة 1991 مثل كربلاء المقدسة والنجف الأشرف .
4- لم يقم النظام بإعدام عائلات كبيرة سواء من الناس العاديين أو بيت العلم والفقه أمثال آل الصدر وآل الحكيم وآل بحر العلوم وآل الحلو وغيرهم. فعدا بضعة علماء ومشايخ من السنة لم نسمع عن إعدامات طالت مشايخهم ، بل على العكس كانوا يجدون الدعم والمؤازرة من النظام، كما أنهم كانوا يؤمنون بأن صداماً هو ولي الأمر الذي تجب طاعته. بعد سقوط النظام ، صرح الشيخ أحمد الكبيسي : (( نحن الآن لا حوزة لنا ولا إمام ، وإذا ظهر صدام ينشأ حكم آخر. وفي هذه الحالة سنجتمع ونقاتل خلفه لو طلب)). (٤) فهو يعتبر صداماً إماماً مفروض الطاعة رغم ما قام به من جرائم بحق المسلمين.
5- لم يقم النظام بعمليات تهجير للسنة العرب كما حدث للأكراد السنة والشيعة الذين هجروا إلى إيران.
6- لهذه الأسباب وغيرها لم يشهد السنة العرب حوادث اختفاء كبيرة العدد أو دفنهم أحياء أو إعدامهم جماعياً ثم دفنهم في مقابر جماعية. ولهذا لم نشهد شيخاً سنياً يبحث عن أولاده أو أقاربه المفقودين في السجون والمعتقلات العراقية بعد سقوط النظام. كما لم نشاهد امرأة سنية تبحث عن رفات أولادها أو زوجها أو والدها في المقابر الجماعية التي ضمت عشرات الآلاف من الشهداء.
7- ربما يوجد من اختفى من أقاربهم في حروب النظام الثلاث باعتبارهم ضباطاً أو جنوداَ في الجيش العراقي أو في جهاز آخر وراحوا ضحية الحروب أو لسبب آخر.
8- ويوجد بالتأكيد من السنة العرب ممن يبحث عن أقاربه الذين سقطوا أثناء حروب النظام لأنهم كانوا بمثابة العمود الفقري للحرس الجمهوري و قوات الحرس الخاص وفدائيي صدام . كما يمكن أن يكون قد تعرض بعضهم إلى الاغتيال والتصفية بعد سقوط النظام لأنهم كانوا من رموز الحزب والأمن والشرطة والجيش الشعبي .
الموقف من حرب 2003
لقد استطاع نظام صدام إقناع السنة بأنه سقوطه يعني فقدانهم نفوذهم في المجتمع العراقي وامتيازاتهم وثراءهم وسلطتهم. ويعزز هذا القناعة أن غالبية عناصر وأعوان النظام هم من أهل السنة . كما استطاع النظام من تسريب هواجس الخوف وعدم الثقة ببقية مكونات الشعب العراقي، وأقنعهم بأن سقوطه سيعرضهم إلى مذبحة كبيرة من قبل الشيعة الذي طالما بطش بهم بعنف وقسوة. وكلها محاولات بذلها النظام لجر السنة إلى جانبه والدفاع ليس عنه فقط بل عن أنفسهم ضد من يهدد النظام.
قبل الحرب عام دعا بعض المشايخ السنة أمثال الشيخ الهيتي، الذي كان يقيم صلاة الجمعة من مسجد أم المعارك وتنقل مراسيمها من قبل قناة العراق الفضائية، دعا إلى جهاد المعتدين ومواجهة القوات الغازية الكافرة. وفي الخارج أصدر 13 عالماً وشيخاً من العراقيين السنة أبرزهم الشيخ أحمد الكبيسي وعبد الكريم زيدان بياناً في 10 آذار 2003 دعوا فيه إلى (( قتال القوات الأمريكية)) ، و (( نهوا عن مناصرة أعداء الإسلام)) و (( أن الأمريكان قد عزموا على احتلال العراق المسلم وباشروا مقدماته فعلى جميع المسلمين في العراق قتالهم والاستعداد لهذا القتال لأن قتالهم صار فرض عين على المسلمين في العراق)). كما دعا هؤلاء العلماء العرب والمسلمين إلى التصدي للقوات الأمريكية حيث أكد البيان على أنه من ((واجب كل مسلم أن ينصر شعب العراق المسلم في محنته وفي الكارثة التي ستحل بكل ما يستطيع حتى يندفع شر الأمريكان المعتدين ومن يواليهم عن العراق وأهله)) و ((على المسلمين من البلاد المجاورة للعراق أن يقوموا بواجبهم الشرعي في قتال الأمريكيين المعتدين نصرة لإخوانهم في العراق)). (٥) ويمكن تبرير هذه الفتاوى بأنها دفاع عن العراق وليس عن النظام، لكنها استمرت بعد سقوطه من قبل هيئة علماء المسلمين وزعيمها حارث الضاري وابنه ورفاقه.
ودعا أياد السامرائي رئيس المكتب السياسي للحزب الإسلامي العراقي –تيار الإخوان المسلمين في العراق- إلى (( مقاتلة المعتدين الكافرين المحاربين باعتباره فرض عين على كل مسلم غيور على أهله ووطنه مهما كان موقفه من النظام الحاكم)). وأضاف ((رغم معارضتنا العنيفة للنظام فقد أعلنا كحزب رفضنا القاطع للعدوان على أرضنا وشعبنا ، وطالبنا إخواننا في العراق وفي كافة الأقطار الإسلامية أن يقفوا صفاً واحداً في مواجهة المعتدين المحاربين)). (٦) وهذا موقف أفضل من موقف الذين لم يعلنوا رفضهم ومعارضتهم لنظام صدام رغم كونهم خارج العراق آنذاك.
وهو موقف طبيعي ومتوقع من أي مسلم يتعرض بلده للاحتلال، ولكنه موقف قد يتفق مع بعض العلماء الشيعة العراقيين أمثال الشيخ مهدي الخالصي الذي دعا أيضاً للجهاد، أو لا يتفق مع موقف علماء وأحزاب إسلامية مثل السيد محمد باقر الحكيم والسيد كاظم الحائري وحزب الدعوة الإسلامية الذين اعتبروا النظام ظالماً يجب إزالته ولكن (( لن يقاتل العراقيون إلى جانب القوات الأمريكية حتى لو كان الهدف القضاء على نظام صدام المجرم)). كما رأوا أن (( الشعب العراقي غير مستعد للدفاع عن هذا النظام ومقاتلة القوات الأمريكية)). ويعتبر موقف التيار الإسلامي العراقي الشيعي مختلفاً عن بقية العلماء السنة غير العراقيين الذين أصدروا فتاوى بالجهاد كالشيخ يوسف القرضاوي وشيخ الأزهر سيد طنطاوي. كما يختلف عن موقف العلماء الشيعة غير العراقيين أمثال السيد فضل الله والسيد علي الخامنئي الذين (( دعوا العراقيين إلى مواجهة القوات الأمريكية)).
الموقف من الاحتلال الأمريكي
بعد سقوط النظام شهدت بعض المواقف تغيراً جذرياً وبعضها بقي متحفظاً من الاحتلال الأمريكي للعراق. فالشيخ أحمد الكبيسي (٧) تراجع عن موقفه بشكل جذري وصار يدعو إلى بقاء القوات الأمريكية حيث يرى أن (( على المحتل واجبات والتزامات ، وأنه بدون أن يقوم هذا المحتل بأداء واجباته لن يكون هناك عراق ولا يمكن لنا استعادته... على هذا المحتل ألا يخرج إلا أن يفعل هذا وينفذ ما هو مطلوب منه)). كما صرح بقوله ((مهما سرق الأمريكيون الآن سيصلنا أكثر مما كان يصلنا في عهد صدام حسين ومن سبقه)). (٨)
وعارض الشيخ الكبيسي تأسيس حكومة إسلامية بقوله (( آخر عباءة تجمع الناس في العراق هي العباءة الدينية . ما من عباءة أشد فرقة من العباءة الدينية. ولذلك لا ينبغي أن تقوم حكومة دينية في العراق اليوم)). كما بدا أكثر ليبرالية عندما قال: (( نحن لا يجب أن نجعل دين الدولة على مذهب واحد)). كما دعا إلى (( الاعتراف بمصالح أمريكا في العراق)). (٩) كما صرح قائلاً : (( أنا واحد من الناس أنادي واعترف أن وجود الأمريكان ضرورة، بدونهم نموت)). (١٠)
واستطاع الشيخ الكبيسي استيعاب الوضع المقلق للسنة العرب جراء سقوط النظام، فحاول طمأنتهم بأنهم جزء هام من المجتمع العراقي. كما خاطب الأكثرية الشيعية وأمتدحها علناً في أول خطبة له بعد سقوط النظام أقيمت في مسجد أبو حنيفة في الأعظمية عندما قال ((بيّض الله وجه الشيعة)). كما شارك مع علماء سنة آخرون وشيعة في مظاهرة رفعت شعارات (لا سنية ولا شيعية، وحدة وحدة إسلامية) و (إخوان سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه). فقد تمكن الكبيسي من تهدئة الشارع السني الذي أصيب بالقلق والذعر من ظهور الشيعة بشكل قوة منظمة ذات ثقل شعبي وسياسي كبيرين.
وإذا كان الشيخ أحمد الكبيسي يمثل التيار المعتدل بين السنة العرب ، فإن هناك فئات أخرى بقيت متمسكة بالنظام البائد ، وتظن أنه ربما سيعود صدام إلى الحكم. فأهالي تكريت وبعض البعثيين في الفلوجة احتفلوا في 28 نيسان 2003 بعيد ميلاد صدام. كما بقي التكارتة يرفعون صور صدام في شوارع مدينتهم. أما البعثيون وبقية أعوان النظام من فدائيي صدام وعناصر أجهزة المخابرات والأمن والحرس الجمهوري، فقد بقوا يمارسون كل ما من شأنه تدمير العراق، حيث قاموا بحرق وتدمير ونهب المؤسسات الحكومية والوزارات ومحطات الماء والكهرباء والاتصالات وحتى المستشفيات والمراكز الطبية. والتحق قسم منهم في الجماعات الإرهابية المعادية للنظام الجديدة مثل القاعدة وداعش.
من الغريب أن المدن ذات الغالبية السنية كالموصل والرمادي وتكريت لم تقاوم الاحتلال ولم تدافع عن النظام الذي غنمت الكثير بوجوده ومن خلاله، وأعلنت استسلامها للقوات الأمريكية رغم وجود عشرات الآلاف من الجنود العراقيين في مناطقها. فقد استسلم قادة الفيالق والفرق العراقية المتواجدة فيها إلى قوات التحالف، وسلموا أسلحتهم وعتادهم بكل سهولة. ولحد الآن لم يشرح أي فقيه عراقي سني هذه الظاهرة، ولم يبرر فقهياً شرعية هذا الاستسلام المريب.
وقد يناقض هذا الموقف الاستسلامي الوضع شهدته بعض المدن السنية مثل الفلوجة وهيت وتكريت والحويجة، وكذلك بعض الأحياء