رجل لم يجتمع في أحدٍ من بعده ما اجتمع فيه من نور النبوة، وعظمة الطاعة، وبأس الفروسية، وسمو الإيمان هو علي بن أبي طالب، عليه السلام، وصيّ محمد، ويعسوب ،الدين وباب مدينة العلم، وإمام المتقين.
ولد في بيت الله، واستُشهد في بيت الله، وبين المهد واللحد كان قلبه لا يعرف إلا الله.
يا له من مولد أغرق الكعبة نورا ، فتباهت بضيائه جدرانها، وسجد الحجر الأسود له طائعا، فكان علي أول من فتح عينيه على قبلة المسلمين، وكأن البيت الحرام خُلق ليحتضنه ويعلن للملأ أن مولودًا من نورٍ قد وُلد.
طفولته عبادة، وصباه إيمان، وشبابه تضحية، وشيخوخته حكمة. نشأ في حضن النبي، رُبِّي على عينه، وغُذِّي بحكمته، فسار حيث يسير، وآمن حيث تردد الناس ونام في فراشه ليلة الهجرة متوسدًا الشهادة، غير آبه بالموت مادام الإسلام حيًا.
علي اول من اسلم، واشدهم إيمانا واصدقهم نية، وأقواهم يقينا هو من قال عنه النبي صلى الله عليه وآله: "أنت مني بمنزلة هارون، من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"، وهو من نادى به في خيبر "لأعطين الراية غدًا لرجل يحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّه الله ورسوله، كرار غير فرّار، يفتح الله على يديه"، فكان هو حامل الراية، وفاتح الحصن، ومزلزل القلوب.
ما سيف طافح بنور العقيدة كـ"ذو الفقار"، ولا فارس شهد له التاريخ مثل علي.
في بدر كان المقدام، وفي أحدٍ صمام الأمان، وفي الأحزاب كان الركن المتين، وفي حنين كان الثابت حين فرّ الجميع.
قاتل الأبطال، وهزم الأعداء، وما قاتل لنفسه يومًا، بل كان في كل معركةٍ يمضي الله، لا يُغريه نصر ولا يُضعفه جرح.
أما علمه، فهو بحرّ لا ساحل له، لا تُحصى درره، ولا تُدرك أغواره هو القائل: "سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به".
هو المفسر، والفقيه، والمتكلم، والفيلسوف، والحكيم. هو من علّم الناس كيف يفهمون القرآن لا بحروفه، بل بروحه. كلماته في "نهج البلاغة "أبلغ من أن تُقارن، وأرفع من أن تُقاس. فيها الحكمة، والعقيدة ،والسياسة، والأخلاق، كأنها نهر يجري من قلب السماء.
وفي عدله، كان مرآة الحق، لا يحابي، ولا يساوم. أنصف خصومه، وقضى بين الناس بالعدل، حتى لو كان الحكم على أخيه أو ولده.
رفض الدنيا حين أقبلت عليه، ولبس الخشن من الثياب، وأكل الجشب من الطعام ونام على التراب، ليعلّم الحكام أن السلطان ليس مقامًا، بل تكليف ومسؤولية.
وفي حنانه، كان أبًا للأيتام، وملاذا للمساكين.
كم بكى حين رأى دمعةً في عين فقير، وكم سهر على راحة أرملة، وكم خرج في ظلمة الليل يحمل الطعام على ظهره، لا يعرفه أحد، وكان يُكنّى بـ"أبو التراب"، وأحب اللقب إليه لأنه يُشعره بالقرب من خلق الله.
ثم ختم حياته كما بدأها في بيت الله ساجدًا لوجه الله، ضاربًا على هامته بسيف الغدر، وهو يهتف: "فزت ورب الكعبة".
فاز بحب الله، ورضوانه، وفاز بجنة عرضها السماوات والأرض. هو القمر الذي دار حول شمس محمد ورفيقه في الغار، وناصره في الدار، وزوج بضعته الطاهرة، وأبو السبطين، وجد الأئمة الأطهار.
يا علي، ما أعظمك في عين الحق، وما أبهى سيرتك في قلوب المؤمنين.
تالله، لا يذكرك ذاكر مخلص إلا وتعلو ،روحه، ولا يقرأ فيك قارى منصف إلا وذابت نفسه حبًا وإجلالا.
أنت سيف الله، ولسان نبيه، وقلبُ الرسالة النابض. أنت حجة على الخلق، ودليل على العدل، ورمز للوفاء، ومدرسة للولاء.
سلام عليك يا أمير المؤمنين، يوم وُلدت في بيت الله، ويوم استشهدت في محراب الله، ويوم تبعث شافعًا للمؤمنين.