صنعاء تعيد تعريف الأمن الإقليمي

صنعاء لم تعد مجرد طرف داعم لغزة بل أصبحت فاعلًا استراتيجيًا يعيد تعريف مفهوم الأمن الإقليمي من خلال تطوير قدراتها البحرية والصاروخية وفرض حظر ملاحي على "إسرائيل" تمكنت من إغلاق ميناء أم الرشراش وإغراق السفن المخالفة كاشفةً عن عجز استراتيجي لدى القوى الغربية.

كاتب 7 8/09/2025 - 12:43 PM 90 مشاهدة
# #

 

لم يأتِ التصعيد الإسرائيلي الأخير المتمثل باغتيال رئيس الحكومة في صنعاء وعدد من الوزراء من خارج السياق والمسار الذي ألزمت به صنعاء نفسها. بل أكثر من ذلك كان متوقعًا في الوقت الذي تهدد فيه صنعاء المرتكزات التي قام عليها الأمن الإقليمي وفق المفهوم الأميركي ـ الغربي، والذي يشمل أمن "إسرائيل" بطبيعة الحال.
في قلب التحولات الإقليمية التي رافقت العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة منذ عام 2023  برز اليمن ليس بوصفه ساحة ملحقة بل كفاعل إستراتيجي راكم أدوات الردع الجيوسياسي من موقع الحصار. استطاعت صنعاء وبأدوات غير متماثلة أن تتحول إلى عقدة ملاحية تُعيد تعريف ميزان القوى في البحر الأحمر والبحر العربي وما قبلهما وما بعدهما بحيث بات الصعود اليمني لا يُقاس بعدد الهجمات أو السفن المستهدفة بل بقدرته على فرض معادلات إقليمية جديدة دون أن تتمكن القوى الغربية الحليفة لـ"إسرائيل" من إيقاف ذلك.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب على غزة، تبنّى اليمن موقفًا معلنًا بربط عملياته البحرية بمصير القطاع ما أضفى طابعًا سياسيًا يتجاوز الحسابات العسكرية البحتة. لكن هذا الموقف مكّن صنعاء أيضًا وبما يخدم القضية الفلسطينية ومصالح المنطقة من إظهار مكامن قوة اليمن بشكل واضح لأول مرة في التاريخ الحديث.
الصاروخ الانشطاري... وإغراق السفينتين
ما حصل مؤخرًا أن التحقيقات الأولية في سلاح الجو الإسرائيلي أظهرت أن الصاروخ الذي أطلقته صنعاء في 22 آب/أغسطس 2025 باتجاه مطار "بن غوريون" كان مزودًا برأس حربي انشطاري في أول مرة تستخدم فيها صنعاء وفق التحقيق، هذا النوع من الصواريخ ضد "إسرائيل".
الرأس الحربي الانشطاري يعني أن الصاروخ عند وصوله إلى الهدف لا ينفجر كرأس واحد بل يتفتت إلى عدة قنيبلات صغيرة تغطي مساحة أوسع. وهذا يجعل الصاروخ أكثر فاعلية ضد المطارات والقواعد العسكرية والتجمعات اللوجستية، وحتى أنظمة الدفاع الجوي المنتشرة على مساحة واسعة. وبالنسبة لـ"إسرائيل"، فإن مواجهة هذا النوع أصعب، لأن القبة الحديدية أو أنظمة الدفاع الأخرى يمكن أن تعترض الرأس الرئيسي، لكنها قد تعجز عن اعتراض كل القنيبلات الفرعية بعد انفصالها.
استخدام صنعاء هذا النوع من الرؤوس يوجّه رسالة بأن قدرتها الصاروخية لم تعد "ردعية فقط"، بل أصبحت قادرة على إحداث أضرار مباشرة وشل مطارات أو مرافئ إذا تكرر استخدامها. وهذا يفتح أمام "إسرائيل" جبهة تهديد أكثر تعقيدًا من مجرد "إسناد" أو "رد"، فالمسألة لم تعد فقط بعدد الصواريخ المطلَقة، بل بنوعيتها وقدرتها على اختراق الدفاعات الجوية وإحداث شلل وظيفي في البنى التحتية.
أن يمتلك اليمن، عند تقاطع الشرق والغرب وفي قلب موازين القوى العالمية، قدرة صواريخ انشطارية، فهذا يتجاوز أيضًا "إسرائيل" وصولًا إلى تهديد منظومة الأمن الغربي في الإقليم، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
بناءً عليه، فإن الاغتيالات التي طالت المستوى السياسي في اجتماع حكومي لم يكن هدفها ضرب القدرات اليمنية، مع علم "إسرائيل" بعجزها عن تحقيق ذلك، بل استهداف مركز القرار. وإذا كانت مسألة الصواريخ الانشطارية تخضع لمسار عسكري وأمني يرتبط حاليًا بـ"إسرائيل" مع قدرتها على التأثير بغيرها وفق متطلبات المرحلة، فإن السيطرة على أهم ممر بحري في العالم وإغراق السفن التي تنتهك قرار صنعاء المتعلق بإمداد "إسرائيل" (أي أن صنعاء تحدد الشروط)، هو في قلب الصراع على الأمن بمفهومه الغربي.
في تموز/يوليو 2025 الماضي، دخلت المواجهة البحرية بين صنعاء والتحالف الداعم لـ"إسرائيل" منعطفًا تصعيديًا نوعيًا. ففي 7 تموز أعلنت القوات المسلحة اليمنية تنفيذ عملية استهداف سفينة الشحن التجارية “Magna CZ” (المعروفة أيضًا بـ“Magic Seas”)، التي كانت ترفع العلم الليبيري وتديرها شركة يونانية، أثناء مرورها جنوب غرب اليمن. وبعد أقل من 72 ساعة، في 9 تموز، نفذت القوات نفسها عملية بحرية معقّدة أدت إلى إغراق سفينة “Eternity C” أثناء توجهها إلى ميناء أم الرشراش المحتل (إيلات). وقد نشرت دائرة الإعلام الحربي اليمني مشاهد دقيقة توثق لحظة استهداف السفينتين، ما يعكس الطابع الميداني المحسوب للعملية.
قائد حركة "أنصار الله"، السيد عبد الملك الحوثي، أشار في حينها إلى أن عملية إغراق السفينتين التابعتين لشركتين مخالفتين لقرار الحظر اليمني على الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، أدت إلى إعادة إغلاق ميناء أم الرشراش بعد محاولة الاحتلال إعادة تشغيله. وأكد الحوثي أن هذه العملية مثلت ردعًا ورسالة قوية لكل الشركات التي تتجاهل قرار الحظر اليمني.
تفيد المعلومات الميدانية من صنعاء أن إغراق السفينتين، إلى جانب ارتباطه بتطبيق قرار الحظر اليمني على ميناء أم الرشراش وحظر الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، وجّه ضربة استخباراتية للاحتلال الإسرائيلي. فقد جرت مؤخرًا محاولة من قبل "إسرائيل"، وبالاتفاق مع شركات شحن غربية، لإيصال الشحنات إلى ميناء أم الرشراش في محاولة للالتفاف على قرار الحظر اليمني.
لذا، ومع محاولة الاحتلال كسر الحظر بهذه الطريقة، نفذت اليمن العمليتين اللتين أوقفتا هذا التحرك نهائيًا، وأُعلن إغلاق الميناء بشكل كامل. إغراق السفينتين كان يهدف، وفق ما تؤكده مصادر صنعاء، إلى "ردع إسرائيل وشركات الملاحة التي تتعامل معه لكسر الحظر، وكذلك توجيه رسالة إلى أي شركات أخرى تفكر في ذلك".
ويعكس إغراق السفينتين، في لحظة إقليمية حساسة بعد أيام من الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية، المستوى الذي وصلت إليه القوات المسلحة اليمنية من القدرة على تنفيذ عمليات إغراق وفق تكتيكات عسكرية معقدة تتضمن استخدام مزيج من الصواريخ والطائرات المسيّرة والزوارق وحتى الألغام. وبحسب المعلومات، فإن "هذا التكتيك المتقدم تضمّن أيضًا رسالة تحذير للأميركيين وغيرهم، مفادها أن من يفكر بشن عدوان على اليمن عليه أن يدرك أن صنعاء قد امتلكت سلاحًا وتكتيكًا جديدًا يمكّنها من إغراق السفن في البحر".
القوى الغربية: عجز استراتيجي
معهد ISPI الإيطالي أشار في تحليل له في آذار/مارس 2025 إلى أن "أنصار الله استثمروا حرب غزة كمجال لبناء شرعية ردعية مزدوجة، أخلاقية ـ عقائدية من جهة، واستراتيجية إقليمية من جهة ثانية"، معتبرًا أن اليمنيين اكتشفوا "قوة جديدة في العمليات البحرية، قوة من غير المرجح أن يتخلوا عنها حتى لو انتهت حرب غزة".
لم تكن عملية استهداف السفن التجارية والعسكرية مجرد رد فعل تضامني مع غزة فقط، بل أداة لتغيير موازين القوة في واحد من أهم الممرات المائية العالمية. الأمر ذاته ينطبق على التطوير الذي طال القدرات الصاروخية في مواجهة "الدفاع الإسرائيلي ـ الأميركي". اللافت في المعادلة أن الغرب، رغم امتلاكه تفوقًا بحريًا وجويًا، لم يتمكن من تحييد هذين التهديدين، بينما تحولت العمليات التي قادتها الولايات المتحدة في البحر الأحمر إلى ما يشبه الاستعراض الرمزي دون أي أثر أمني أو عسكري استراتيجي ملموس.
ما يميز النموذج اليمني أنه لا يستند إلى ترسانة ضخمة أو قدرات تكنولوجية متقدمة، بل إلى مزيج مركب من التكتيك المحلي والابتكار والتعاون مع الحلفاء. الطائرات المسيّرة، الصواريخ المجنحة متوسطة المدى، واستخدام الجغرافيا كأداة ضغط، كلها عناصر مكّنت صنعاء من فرض كلفة استراتيجية على خصومها دون خوض مواجهة مباشرة، ضمن ما يمكن تسميته بـ"الردع الهجين"، وفرض قواعد اشتباك جديدة دون الحاجة إلى اعتراف دولي بالسلطة القائمة، في حين أن القوى الدولية ستكون مجبرة على الاعتراف بقوة تلك السلطة وتأثيرها.
اللافت مؤخرًا، ومع توقف العمليات العسكرية الأميركية، أن ردود الفعل الغربية على الهجمات اليمنية اتسمت بالتردد والتجزئة، ما يعكس أزمة تصور استراتيجي. فبينما تكتفي الولايات المتحدة بالتحذير والإدانات، وتلجأ بريطانيا إلى خطوات رمزية، فإن الواقع يُظهر أن كلا الدولتين عاجزتان عن شن حرب بحرية وبرية وجوية ناجحة في ظل التوازنات الحالية. أما "إسرائيل"، فلا تزال تستهدف المواقع والمراكز ذاتها، لا سيما الموانئ، من دون أي نتيجة. وحتى عندما صعّدت باستهداف شخصيات سياسية حاكمة في صنعاء، فإن ضربتها، وإن كانت تحمل رسائل سياسية وأمنية واضحة، لن تغيّر في المشهد أو مستوى التهديد الذي تتلقاه، بل على العكس، طبيعة الضربة الإسرائيلية وأهدافها سترفع مستوى التهديد اليمني للاحتلال الإسرائيلي.
السيادة تترسخ
بالعودة إلى العمليات اليمنية، فإنها امتداد لرؤية أشمل ترى أن الردع لا يجب أن يقتصر على الدفاع، بل يشمل الهجوم الوقائي والسيطرة الرمزية على الموارد الحيوية للخصم. وقد سُجّل تحول ملحوظ في المزاج التعبوي لدى النخبة العسكرية في صنعاء. إستراتيجيًا، جاءت هذه العمليات في توقيت بالغ الحساسية، خاصة بعد مؤشرات عن محاولة واشنطن الدفع نحو تصعيد متعدد الجبهات يشمل الداخل اليمني نفسه. وبحسب المعلومات، فإن العملية حملت طابعًا مزدوجًا: تطبيق قرار سيادي بالحظر الملاحي من جهة، وتحذير استباقي لأي هجوم محتمل على اليمن من جهة أخرى.
المعهد الأميركي Stimson أشار في تقرير صدر بتاريخ 11 تموز/يوليو 2025 إلى أن التقدّم البحري لصنعاء لم يُضعف، على الرغم من الضربات الأميركية والإسرائيلية، بل تعزز بعدها. كما "عزّزت صنعاء مكانتها كفاعل يُشكّل معادلة ردع صلبة في المنطقة، لا سيما عبر قدراتها على استهداف السفن البحرية وتحويل البحر إلى مساحة فرض إرادة وموازين ردعية". كذلك، وفي تحليل مستقل لمنصة ACLED بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2025 بعنوان "A Red Sea hall of mirrors"، اعتبر الباحث لوكا نيفولا أن تنازع التصريحات الأميركية تجاه البحر الأحمر وهجمات صنعاء البحرية يعكس واقعًا مغايرًا، حيث صار التحكّم البحري لصنعاء ملموسًا، وأصبحت الردود الغربية محدودة التطور وغير كافية.
وفي المجمل، تشير هذه التحليلات إلى أن قوة صنعاء البحرية وصلت إلى حالة رسخت من خلالها السيادة البحرية بالنار في تموز 2025، عبر امتلاك مجموعة متنوعة من أدوات الضغط البحري (مسيرات، صواريخ بحر–بحر، ألغام)، جنبًا إلى جنب مع إرادة سياسية واضحة لتعطيل الممرّات البحرية والتحكم فيها.
تصعيد اقتصادي... الرد عسكري؟
تؤكد المعلومات العسكرية من صنعاء أن الأخيرة "باتت في وضع استراتيجي ممتاز من ناحية القوة العسكرية". فقد نجحت في تزخيم مخزونها من الصواريخ والأسلحة والمسيرات، واستطاعت إدخال أسلحة جديدة إلى ساحة المعركة، مع تطوير كبير في البنية التقنية والدفاعات الجوية. هذه الدفاعات أثبتت فعاليتها سواء في مواجهة العدوان الإسرائيلي مؤخرًا أو في التصدي لهجمات أميركية سابقة. ووفق هذه المقاربة، فإن اليمن يخرج من كل جولة حرب وهو أكثر قدرة وخبرة. فكل معركة تُراكم في سجلّه تجربته العملياتية وتحوّلها إلى تكتيكات عسكرية جديدة. وقد استفاد اليمن من بيئة الحرب المفتوحة في الإقليم لتطوير منظوماته واستراتيجياته، لا سيما في المجال البحري الذي أصبح جبهة فعلية.
أما داخليًا، فإن الولايات المتحدة لم تتوقف عن محاولات التصعيد ضد اليمن عبر مسارات استهداف متعددة. فمنذ اللحظة الأولى لدعم صنعاء لغزة، توعّدت واشنطن بالتصعيد، ونفذت بالفعل جولتين من الحرب ضد اليمن، لكنها فشلت في تحقيق أي إنجاز فعلي. واليوم، تعتمد على أدوات أخرى لإضعاف صنعاء، أبرزها العقوبات الاقتصادية، واستهداف الموانئ، ودفع الأمم المتحدة إلى تأزيم الوضع الإنساني. وتفيد المعطيات الميدانية اليمنية بأن صنعاء تراقب هذه التحركات بدقة، وتعدّ للمواجهة وفق تصورات متعددة. بل إن بعض المستشارين العسكريين اليمنيين يعتبرون أن اليمن قد يتعامل مع هذا التصعيد الاقتصادي باعتباره فعلًا حربيًا في لحظة معينة، ويُردّ عليه بعمل عسكري بحري مباشر ضد مصالح الدول المتورطة.
أمن غرب آسيا أولوية
لم يعد مفهوم الأمن في غرب آسيا خاضعًا لإرادة القوى التقليدية، بل بات يُعاد تعريفه من داخل الإقليم نفسه، وبأدوات محلية فرضت نفسها رغم الحصار والحرب. وبذلك انتهى زمن الهيمنة الأحادية على الممرات البحرية وعلى قرار الحرب وشن الضربات. وفي هذا التحول، صنعاء ليست مجرد مشارك ظرفي في حرب إسناد غزة، بل صانع مسارات جديدة للتفكير في الأمن والسيادة والردع. فمع كل عملية بحرية يمنية، تتآكل سردية التفوق الغربي في البحر الأحمر وباب المندب، ويصعد مشروع أمني بديل تقوده قوى من قلب الإقليم.
اليمن لم يكن جزءًا تابعًا لمحاور القرار الإقليمي أو ممرًا إلزاميًا لحسابات الأمن البحري الدولي. لكنه، في أقل من عامين، أعاد رسم خرائط القوة من بوابة البحر الأحمر، وفرض نفسه كقوة بحرية تكتيكية ذات أثر استراتيجي. هذا الصعود لا يعكس فقط مهارة عسكرية، بل تحوّلًا ذهنيًا في فهم موقع اليمن الجيوسياسي، من بلد فقير ممزق داخليًا إلى لاعب يعيد تعريف مفهوم القوة في النظام الدولي وحتى خارجه أيضًا.
وبهذا المعنى، فإن اليمن لا يهدد الأمن الإقليمي، بقدر ما يُعيد تعريفه وفق مصالح شعوب غرب آسيا حصراً. فصنعاء لم تكتف بالدفاع عن غزة، بل شرّعت أبواب الجغرافيا لصياغة أمن جديد يخصّ الإقليم، ويتجاوز مصالح النظام الدولي بمفهومه الغربي.

حقوق الطبع والنشر © Video IQ