Weather Data Source: 30 days weather Baghdad
بغداد
عاجل

لغز الأصوات الصفرية في العراق: الأسباب والدلالات

#
كاتب 3    -      75 مشاهدة
17/11/2025 | 03:04 PM

بقلم: د. رعد هادي جبارة

شهدت الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة ظاهرة غريبة ومثيرة للدهشة في الوقت ذاته: عشرات المرشحين حصلوا على صوت واحد فقط!!، بينما لم يحصد آخرون أي صوت على الإطلاق !!! رغم وجود أكثر من 20 مليون مواطن يحق لهم التصويت.
الأغرب من ذلك؛ أن بعض هؤلاء المرشحين يحملون شهادات عليا مثل الدكتوراه أو الهندسة، أو المحاماة، أو الألقاب الأكاديمية الرفيعة مثل بروفيسور، و حجة الإسلام، مما يطرح أسئلة عميقة تتجاوز مجرد النتائج الانتخابية.
فكيف يمكن أن يعجز المرشح عن الحصول حتى على أصوات أسرته أو أقاربه أو جيرانه أو طلابه أو أصدقائه؟ وهل يستحق هؤلاء فعلاً “الصوت الواحد” أو “الصفر”؟ أم أن هناك ظروفاً أخرى تفسّر هذا المشهد المعقد؟
الملابسات
1.ظاهرة ليست صدفة؛مؤشر لأزمة ثقة
يبدو أن المتغير الأكبر هو انعدام الثقة العامة في الكثير من المرشحين، خاصة أولئك الذين يدخلون المعترك الانتخابي لأول مرة أو من دون مشروع واضح أو حضور اجتماعي مسبق، معتقدين أن مجرد حملهم لشهادة عليا يمنحهم قبولاً وفوزاً و أفضلية تلقائية. لكن الناخب العراقي لم يعد يصوّت على أساس الشهادة، بل على أساس الجدوى والقدرة والفعالية والمعرفة المسبقة والانجاز و الشخصية المرشحة.

2.الحملات الوهمية
كثير من المرشحين كانوا أشبه بـ [أسماء على الورق].فبعضهم لم يُعرف له نشاط حقيقي، ولم يقم بحملة انتخابية منظمة ، ولم يقدّم نفسه للجمهور. وفي عصر الإعلام المفتوح، غياب المرشح عن المشهد يعني ببساطة:غياب الأصوات.

3.اعتماد مبالغ فيه على “أصوات الأقارب”؛
يظن بعض المرشحين أن أصوات العائلة و العشيرة والقرية تكفي لرفعه إلى البرلمان. لكن في الحقيقة، قد تمتنع العائلة نفسها عن التصويت له لاعتبارات اجتماعية أو سياسية أو حتى بسبب عدم قناعتها بترشيحه،او حسداً،او لضعف في شخصيته.
كما أن الانقسام العائلي يحدث كثيراً:
– البعض يقاطع الانتخابات أصلاً
– البعض يصوت لمرشحين نافذين يضمنون “المصلحة”
– البعض يخشى إثارة مشاكل داخل العائلة

4.“مرشحو الصدفة” وحسابات خاطئة
هناك من يترشح بدافع التجربة أو الطموح الشخصي دون إدراك حجم المنافسة.
وهناك من يظن أن الشهادة العليا تمنحه “شرعية سياسية” دون امتلاك قاعدة شعبية.
آخرون يرشحهم أشخاص أو جهات لملء فراغ انتخابي، فيدخلون السباق من دون أي مقومات.

5.مقاطعةالقطيع
عندما تكون نسبة المشاركة منخفضة، يصبح الحصول على الأصوات أكثر صعوبة.
فالمرشح الذي يعوّل على 100 قريب أو صديق قد يفاجأ بأن 70 منهم لم يصوّتوا أصلاً، و10 صوّتوا لمرشحين آخرين، و10 لم يصلوا للمركز الانتخابي وليس مهما عندهم أن يفوز صاحبهم… فيبقى هو وصوته فقط.

6.تأثير المنظمات الكبيرة والأثرياء الداعمين لها
في ظل وجود قوى سياسية تمتلك المال و النفوذ والآلة الانتخابية الضخمة، يصبح المرشح المستقل – خصوصاً غير المعروف – شبه غير مرئي.
الأصوات تذهب غالباً إلى الكتل المنظمة، بينما يتشتت ما تبقى بين المستقلين، فيسقط كثير منهم في دائرة الصوت الواحد.
هناك 55 مرشحاً حصلوا على صوت واحد فقط. وعشرات المرشحين حصلوا على 0 صفر صوت.
أحدهم نقرأ اسمه هكذا: [رئيس مجلس الخبراء العراقي البروفيسور الدكتور الأستاذ المهندس ضياء واجد].
وعندما رشح نفسه في الانتخابات النيابية الأخيرة ولم يفز بصوت واحد كتب بيانا وجهه إلى الناخبين الذين كان يأمل أن ينتخبوه فأحجموا عن إعطائه أي صوت منهم،قائلا:
[الزملاء ألحّوا وقالوا: “ترشّح، البلد يحتاج أمثالك!”
فقلت: “حاضر، سنجرب الحظ، ربما هذه المرّة يصوّت الشعب للعقل قبل العشيرة.”
تقدّمت مع تحالف مدني، ولم أرَ منهم مدنيًّا ولا تحالفًا. لم أستلم دعمًا، ولا حتى قنينة ماء انتخابية. كنت مرشحًا بلا ملصق، بلا مؤتمر، بلا صورة،كنت أستحي أن أخبر أقاربي أني مرشّح.
تحرّك معنا زملاؤنا في مجلس الخبراء – أكثر من 2000 شخص بينهم أساتذة، طلبة، ضباط، شيوخ، وحتى شيخٌ معمّم خلع عمامته ولبس دشداشته، وساق معه أربعمئةٍ وعشرين مؤمنًا بالديمقراطية، نحو المراكز الانتخابية.
اتصالات من كل مكان؛ صور، وعود، دعم، حماس،كل شيء كان جاهزًا...إلا النتائج.
النتيجة كانت “صفرًا” أنيقًا، مستديرًا، كأنه خاتمٌ على شهادة الخيبة.0صفر... لا صوت واحد، لا نصف، لا كسور عشرية.كأنني ترشّحت في كوكبٍ آخر!
أقول[للعراقيين]:
مبروك عليكم، فقد جددتم الولاء للفاسدين والمزوّرين والسارقين.
صرفوا أحد عشر ترليون دينار ليقنعوكم أنهم منكم، فصدقتم...أما أنا، فسأكتفي بهذا الصفر، أضعه وسامًا على صدري].

هل يستحقون “الصفر”؟
السؤال الحقيقي هنا ليس: هل يستحقون الصفر؟
بل: هل كانت تجربتهم صادقة وجدية وتستند إلى مشروع؟
فقد يحمل المرشح أعلى الشهادات، لكن السياسة تحتاج إلى:
– حضور
– مبادرة
– خدمة
– قاعدة اجتماعية
– تواصل
– مشروع مقنع
الشهادة الأكاديمية لوحدها لا تبني سياسياً، تماماً كما أن اللقب الأكاديمي لوحده لا يخلق قائداً.

الخلاصة:
إن ظاهرة المرشحين الذين حصلوا على “صوت واحد” أو “صفر” ليست مجرد طرفة انتخابية، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بـ:
ضعف الثقافة السياسيةلبعض المرشحين
انعدام الثقة لدى الجمهور
غياب المشاريع الحقيقية
واحتكار القوى الكبيرة للمشهد
يقول أحد المراقبين السياسيين: إن كثيراً من المرشحين الجدد بدأوا يدركون متأخرين أن اللعبة الانتخابية في العراق ليست كما تخيلوها.فالسياسة في كل مكان لا تعترف بالرغبات الطيبة، ولا تكترث للنوايا الحسنة.بل هي ميدان صراع تقوده معادلات النفوذ، والمال، والعشائر، والولاءات، وخرائط التمويل.
فمن لا يملك حاضنة سياسية
ولا يسيطر على جمهور منظّم
ولا يمتلك شبكة تمويل
ولا يدعمه شيوخ عشائر نافذون
ولا يُتقن إدارة الخطاب الإعلامي الشعبي
ولا يُجيد التحالف المرحلي…
وليس لديه إنجاز بارز
ولا علاقات اجتماعية واسعة
ولا شخصية محبوبة وكارزمية
فهو مجرد رقم زائد على ورقة الترشيح، سينتهي به المطاف الانتخابي في ملصق انتخابي يمزقه الهواء بعد يوم التصويت.
لقد نُصح كثيرًا بعض المرشحين من قبل، من باب الحرص لا الإحباط، أن الترشيح ليس رحلة شخصية، بل مشروع متكامل.ومن لم يُحضّر مشروعه، ولم يفهم تضاريس هذه اللعبة، فعليه أن يمتنع عن دخول الحلبة قبل أن يُستهلك اسمه ويُكسر أمله.
فالسياسة ليست حماسة لحظيةولا ظهورًا عاطفيًا على السوشيال ميديابل معركة طويلة النفس، تحتاج إلى:
تحالف ذكي،
وتمويل منضبط،
 وخطاب موزون،
وشخص لا يخاف المجازفة والاصطدام
 وعلاقات واسعةالنطاق مع شرائح الشعب
وإقبالاً من الناخبين.

وكل من خاضها دون استعداد،أُهين قبل أن يُجرّب،وتحوّل من “مرشح صفري”.
الصوت الصفري للمرشح رسالة واضحة تقول له:البرلمان ليس مكاناً لتجربة الحظ… بل مسؤولية تحتاج إلى جهد وجمهور وأحياناً تحتاج الى صدقية و امكانات وجدارة و كفاءة وكاريزما.
ما رأيك أنت؟