Weather Data Source: 30 days weather Baghdad
بغداد
عاجل

تمويلات وضغوط… ما وراء صمت خبراء البوسنة عن غزة

#
کاتب ١    -      14 مشاهدة
21/11/2025 | 08:48 PM

 

سمير بيهاريتش وأمينة زوليتيتش
ناشط حائز على جوائز في مجال حقوق الإنسان. طالبة دكتوراه بوسنية في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بجامعة

 

يصادف هذا العام مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب في البوسنة والهرسك، وهي الحرب التي قُتل فيها نحو 100 ألف شخص.
وقد بلغت الحرب ذروتها في مذبحة سربرنيتسا في يوليو/تموز 1995، حيث ارتكبت القوات الصربية البوسنية، بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش المعروف بـ"جزّار البوسنة"، مجزرة بحق أكثر من 8 آلاف رجل وفتى داخل "منطقة آمنة"، بحسب تصنيف الأمم المتحدة.
وفي العقود التالية، استمعت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة إلى مئات الشهادات، وأصدرت أحكاما بإدانة عشرات القادة السياسيين والعسكريين الصرب البوسنيين، بمن في ذلك من أُدينوا بجرائم إبادة.
وفي الأثناء، استثمرت دولة البوسنة والهرسك إلى جانب جهات مانحة أجنبية، أموالا كبيرة في دراسة الإبادة، واستعادة الضحايا وتخليد ذكراهم.
أصوات الضمير
مع بدء الإبادة في غزة، رأى كثير من البوسنيين الناجين من حرب 1992-1995 أوجه شبه مدهشة بين تجاربهم ومعاناة الفلسطينيين. فخرج الكثيرون إلى الشوارع وتحدثوا علنا ضد الحرب الإبادية في فلسطين.
لكنّ عددا كبيرا من المثقفين البوسنيين، لا سيما المتخصصين في جرائم الحرب والإبادة، اختاروا الصمت. وهذا الصمت لا يضر فقط بجهود تحقيق العدالة لغزة، بل يُقوّض أيضا مجال دراسات الإبادة.
وقبل أن نستعرض أسباب تحوّل غزة إلى موضوع محرَّم لدى بعض الباحثين البوسنيين، يجب أن نُشير إلى أن الجميع ليسوا صامتين. فهناك مجموعة صغيرة من الأكاديميين البوسنيين، ممن هم أيضا ناشطون في الدفاع عن فلسطين وحقوق الإنسان، اختاروا أن يتكلموا.
منهم أساتذة وباحثون جامعيون- مثل: لييلا كريشيفلياكوفيتش، سانلا تشيكيش باشيتش، غورانا مليناريفيتش، ياسنا فيتاحوفيتش، وسانلا كابيتانوفيتش- أكدوا أن هناك مسؤولية أخلاقية تفرض عدم الصمت. وقد قدّموا مثالا يحتذى به، من خلال مشاركتهم في الاحتجاجات وإدلائهم بتصريحات علنية.

كما انتقدت بلما بولجوباشيتش، أستاذة في كلية العلوم السياسية بجامعة سراييفو، القادة السياسيين الأوروبيين وغيرهم ممّن يُبدون تعاطفا مع سربرنيتسا، لكنهم في الوقت نفسه يبررون أفعال إسرائيل في غزة بوصفها "دفاعا عن النفس". واعتبرت أن هذه الازدواجية تكشف براغماتية مقلقة تُقوّض التضامن والمساءلة معا.
وفي مقابلة حديثة، صرّحت أدينا بيتشيريفيتش، المتخصصة في دراسات الإبادة الجماعية بجامعة سراييفو- كلية علم الإجرام والأمن، أن الإبادة الجارية في غزة تعكس بوضوح نفس الديناميكيات التي حدثت في سربرنيتسا: من تجريد الناس من إنسانيتهم، إلى التعبئة الأيديولوجية، ثم التواطؤ الدولي.
كما كان أحمد عليباشيتش، مدير مركز الدراسات المتقدمة والأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة سراييفو، صريحا في مواقفه. فقد شارك العام الماضي في تنظيم ندوة بعنوان: من البلقان إلى غزة: تحليل نقدي للإبادة الجماعية، التي ناقشت ديناميكيات العنف الجماعي المعاصرة من خلال المقارنة بين مذبحة سربرنيتسا، وحصار سراييفو، والإبادة الجارية في غزة.
من جانبها، لم تتردد نيدزارا أحمداشيفيتش، الصحفية والباحثة الإعلامية المقيمة في سراييفو، في عقد مقارنات بين غزة وتجارب الناجين البوسنيين من سراييفو وسربرنيتسا المحاصرتين.
ولعدة أشهر، نظم أعضاء "التجمع النسوي المناهض للعسكرة في سراييفو"، وقفات احتجاجية وسط المدينة، قرأنَ فيها أسماء الأطفال الذين قُتلوا في غزة، رابطات بين جرائم الحرب في فلسطين، والفظائع التي عاشتها سراييفو.
هؤلاء الأفراد استجابوا- كلٌّ بطريقته- لنداء المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، الذي دعا دائما المثقفين إلى "قول الحقيقة في وجه السلطة"، وربط الذاكرة المحلية بالعدالة العالمية، ومقاومة سرديات الحقيقة الانتقائية.
فالصمت، كما أشار سعيد، ليس موقفا محايدا، بل هو اختيار سياسي يُبقي الأذى قائما.
أبدت الجالية الفلسطينية في البوسنة استغرابها من غياب التضامن من سربرنيتسا مع غزة، وتساءلت عمّا إذا كانت علاقات المركز مع "المؤتمر اليهودي العالمي" هي سبب هذا الصمت، ردّ سولياغيتش باتهامهم بـ"معاداة السامية"
ليست معركتنا!


لكن نداء سعيد لم يحرّك الجميع. والمفارقة أن العديد من الباحثين البوسنيين في مجال الإبادة بقوا صامتين بشكل لافت، حتى في الوقت الذي اتّهم فيه زملاؤهم من باحثي الإبادة في الخارج- بمن فيهم الإسرائيليون: عومر بارتوف، عاموس غولدبرغ، شموئيل ليدرمان- إسرائيل علنا بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
ولم يتغير هذا الموقف حتى بعد أن أصدرت "الجمعية الدولية لدارسي الإبادة الجماعية"- وهي أكبر هيئة أكاديمية متخصصة في المجال- قرارا في أغسطس/آب الماضي، يُصنّف أفعال إسرائيل في غزة على أنها إبادة جماعية.
ورغم ذلك، ظل العديد من الباحثين في "معهد أبحاث الجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي" التابع لجامعة سراييفو، وأساتذة كلية القانون، والباحثين في "معهد التقاليد الإسلامية للبوشناق"، يتجنبون التعليق على جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة.
وعلى مستوى المؤسسة، لم يُصدر "معهد أبحاث الجرائم ضد الإنسانية" بيانا بشأن غزة إلا بعد اقتراب وقف إطلاق النار، وتحديدا في 8 أكتوبر/تشرين الأول.
وقد جاء البيان مراوغا، لم يُشر فيه إلى إسرائيل بصفتها الجهة التي ارتكبت الفظائع، مما دفع بعض المراقبين إلى اتهام المعهد- بقيادة معمر جانانوفيتش- باتباع نهج محسوب وانتهازي.

لكن ربما تبقى الحالة الأبرز هي أمير سولياغيتش، أحد الناجين من الإبادة ومدير مركز "سربرنيتسا التذكاري".
فعندما سُئل عن موقفه من غزة أواخر عام 2023، صرّح لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية قائلا: "هذه ليست معركتنا".
وقد قوبلت تصريحاته بإدانة واسعة من المراقبين، مشيرين إلى تناقض موقفه، خصوصا أنه قبل عام فقط نشر مقالا يحثّ فيه الأوكرانيين على "عدم إلقاء السلاح".
وعلاوة على ذلك، فإن المركز الذي يديره أنتج دراسات حالة متعددة بدعم من الحكومة البريطانية، ركّزت على أوكرانيا، وسوريا، وجنوب السودان، وإثيوبيا، وسلّطت الضوء على بوادر العنف الجماعي والإبادة الجماعية فيها.
وعندما أبدت الجالية الفلسطينية في البوسنة استغرابها من غياب التضامن من سربرنيتسا مع غزة، وتساءلت عمّا إذا كانت علاقات المركز مع "المؤتمر اليهودي العالمي" هي سبب هذا الصمت، ردّ سولياغيتش باتهامهم بـ"معاداة السامية".
بل ذهب إلى حدّ تشبيه مقاتلي حماس بـ"الشيتنيك"؛ وهي مليشيات صربية قومية وملكية تعاونت مع الفاشيين الألمان والإيطاليين والكروات خلال الحرب العالمية الثانية، وارتكبت فظائع جماعية بحق المسلمين البوسنيين.
وقد غذّت أيديولوجيتهم، بعد نصف قرن، جرائم حرب وإبادة جماعية جديدة في الحرب البوسنية.
ثمن الصمت
صمت العديد من الباحثين البوسنيين في دراسات الإبادة ليس عَرَضيا.
فبعضهم يخشى العواقب المهنية في الأوساط الأكاديمية الغربية، ويشعر أن اتهام إسرائيل بالإبادة قد يُضرّ بمستقبله الأكاديمي.
والكثيرون مترددون في تعريض مصادر تمويلهم الخارجي للخطر، لا سيما التمويلات القادمة من السفارات الغربية- الأميركية والبريطانية والتابعة للاتحاد الأوروبي- والتي تغذي مشاريعهم ومنظماتهم "الجانبية".
وآخرون يخشون فقدان العلاقات الدبلوماسية التي لا تزال تلعب دورا في استقرار البوسنة الهشّ.
لكن لا شيء من هذا يبرّر صمت الباحثين العاملين في مؤسسات ممولة من دافعي الضرائب البوسنيين.
فهؤلاء، بصفتهم باحثين في مجال الإبادة، يعيشون من أموال عامة، ويتحملون مسؤولية خدمة الصالح العام، بما في ذلك: الحفاظ على النزاهة العلمية، والدفاع عن الحقيقة، والمساهمة في التوافق الأكاديمي العالمي دون خوف من العواقب المهنية.
حين يفشل الأكاديميون والمتخصصون في الإبادة الجماعية والعاملون في المؤسسات العامة في التحدث عن جرائم الحرب أو الأزمات الإنسانية، فهم يُسهمون في شرعنة سرديات تُخفي الجريمة.
تلك السرديات تصوغ أعمال العنف الجماعي على أنها غير جديرة بالتحقيق أو الإدانة، فتخلق تدرجا في "أحقّية الضحية"، يخدم المصالح السياسية على حساب المبادئ العالمية والنزاهة الأكاديمية.
نداء إدوارد سعيد للمثقفين كي يتكلموا لا يزال راهنا وملحا.
إنه يُذكّرنا بالحاجة إلى تجاوز صمت الراحة، وكشف انحرافات السلطة، والدفاع عن العدالة والشفافية والمساءلة.
ففي رؤيته، الصمت شكلٌ من أشكال التواطؤ، يهدم أساس السعي وراء الحقيقة الذي تزعم الأكاديميا أنها تحميه.
بهذا المعنى، يجب ألا يسمح المثقفون لأنفسهم بالانزلاق إلى مساومات سياسية، حيث يُقايض الصمت عن إبادةٍ بالاعتراف بأخرى.
وإذا أصبح نضالهم انتقائيا، فإنهم يُحوّلون دراسات الإبادة الجماعية إلى أداة سياسية، ويفقدون بذلك استقلالهم الأكاديمي، ويتحولون إلى جماعة مصالح مجرّدة من تلك القيم الأخلاقية التي طالما ادّعوا الدفاع عنها.
من خلال تسليط الضوء على غزة في السياق البوسني، ندعو إلى أخلاقيات جديدة من المسؤولية والنزاهة الفكرية، تُوازن بين التمييز العلمي والمساءلة العامة والعدالة الإنساني